TOP

جريدة المدى > عام > في غياب الأستاذ

في غياب الأستاذ

نشر في: 28 ديسمبر, 2025: 12:04 ص

علي حسين
( كل الاحبة يرتحلون
فترحل شيئاً فشيئاً من العين ألفة هذا الوطن )
أمل دنقل
كنا قد قررنا أمس – الثلاثاء – أنا والصديق علاء المفرجي ان نذهب الاسبوع المقبل الى الحلة برفقة الصديق ستار الحسيني لزيارة الاستاذ ناجح المعموري ، ولم يخطر ببالنا ان نقرأ صباح اليوم ان الاستاذ قد رحل عن عالمنا بعد معاناة مع المعرض ، رافقها ألم الجحود ونكران الجميل من بعض الذين مد لهم يد العون والمحبة طوال مسيرته الثقافية .
مات الاستاذ الذي كان يحمل مزيجاً من اصالة الكاتب ووطنية المثقف ، وإحساس الفنان المرهف ، واستقامة ومبدئية النهج والمنهج ، وعطاء العارف ، والايمان بالثقافة ، وإعلاء قيمة العقل . هذه الخصال وغيرها جمعها بجسده الذي خذله المرض وعقلة الذي ظل مستيقظاً حتى اللحظات الأخيرة ، وروحة الشديدة النقاء ، ووطنيته التي لم يساوم عبيها يوماً .
رحل الاستاذ في زمن اختلطت فيه المصالح بالمبادئ ، وغيب فيه صوت المثقف المدافع عن قيم الحضارة والعلم والمعرفة ، المثقف الذي يصوغ عقل القارئ ، ويدافع عن ثوابت الوطنية ، ولا تستطيع الانتهازية بكل جبروتها ومغرياتها ان تجعله يتخلى عن مواقفه .
كان ناجح المعموري نموذج فريد من المبدعين الذين تعددت مواهبهم وتنوعت اهتماماتهم . بدأ النشر في القصة القصيرة التي تتابعت منذ ان اصدر « اغنية في قاع ضيق عام 1969 إلى أن تحول للرواية عام 1978 عندما اصدر رواية « النهر « ، ثم اخذه النقد الثقافي والدراسات المثيولوجية والبحث عن مصادر الاساطير في ثقافتنا ، حين اصر في سنواته الاخيرة الى ترسيخ اهمية الذاكرة في حياة الشعوب .
من القصة القصيرة الى الرواية الى الدراسات الثقافية ، يترك لنا ناجح المعموري علاماته المتميزة ، هذا التنوع هو أول ما يلفت الانظار الى هذا الانسان الذي لم تفارقه الابتسامة يوماً رغم كل المحن ، فإلى جانب الحساسية الفنية التي ترافق الروائي ، هناك النظرة النقدية الثابتة التي تتابع كل جديد ، طوال سنوات كانت مقالات المعموري في صحيفة المدى تطارد كل ما هو جديد في حقول الثقافة العراقية ، تبشر بالمتميز وترشد المتعثر ، وتقدم بمحبة من يستحق التقديم ، من نقد ادبي الى نقد فني ، ومن الغرام بالرواية الى الهيام بالدراسات الثقافية ، ومن تشجيع من يستحق التشجيع الى منازلة المتغطرسين ثقافياً. انه التعدد الذي كان يبدو ناجح المعموري من خلاله نهماً في الخوض بكل فروع الثقافة ، وفي التعرف على كل مجالات الابداع الإنساني . ولذلك كان الاستاذ يدهش القراء وهو ينقلهم من اسطورة كلكامش الى الحفر في اعمال جواد سليم ، ومن اكتشاف يوميات محمد موفق ، إلى اسطورة عشتار ، التي اعقبتها الدراسات المتميزة للاساطير حيث ساهم من خلالها في تشكيل تيار جديد من الابداع في الثقافة العراقية .
منذ ان جعل ناجح المعموري عنوان دراسته الاولى « موسى واساطير الشرق « ومرورا بـ « اساطير الالهة في بلاد الرافدين « و « أقنعة التوراة « ، وليس انتهاء بالحديث عن المسكوت عنه في ملحمة كلكامش ، كان فيها الاستاذ يساهم مع طليعة من النقاد والدارسين في تأسيس العناصر التكوينية لمنهج يدرس علاقة الاسطورة بالادب والفن والتاريخ وحياة البشر .
كان الايمان بالثقافة والوطن يتجلى في كل كتابات ناجح المعموري ، وهو المعيار الذي تشكلت منه افكاره ، ومكنته من قراءة الماضي بعمق ، واستشراق المستقبل .
مشوار طويل شقه الباحث والكاتب والانسان ناجح المعموري بالإصرار والمثابرة والاهم بالمعرفة حتي حقق ما اعتقد أنها أحلامه وما تيقنا نحن محبيه انها احلام الكبار عبر مؤلفات ، كتبت بحرارة الحس والقلب، من دون التفلسف الذي يفسد على الكاتب حيويته.
تعود الاستاذ أن يشارك المقربين منه مشاريعه واحلامه الثقافية ، لكنه هذه المرة كان وحيداً ، لم يشاركه احد همومه واحزانه بعد ان فقد زوجته ورفيقة دربه ، ليغدر به المرض ، ويتربص به الموت تاركاً احلامه ومشروعاته الكبيرة ،مفارقاً عالمنا الغادر الى العالم الذي سبق أن رحل اليه رفيق رحلته الثقافية موفق محمد لربما يردد معه : « كل الحياة مجازةٌ ..والموت ليس له إجازه « .. ، مخلفا لنا وحشة الفراق وذكرى استاذ عاش نقياً محباً للحرية ، تاركاً وراءه سيرة مضيئة يجب أن نتوقف جميعا امامها باحترام كبير .
قال الروائي كازنتزاكي لزوجته في أيامه الأخيرة وعيناه الفاحمتان المدورتان غارقتان في الظلمة ومليئتان بالدموع: «أحسّ كأنني سأفعل ما تحدّث عنه برجسون: الذهاب الى ناصية الشارع ومدّ يدي للتسول من العابرين: زكاة يا إخوان، ربعَ ساعة من كل منكم.. ما يكفي فقط لإنهاء عملي وبعدها فليأتِ شيرون، ناقل أرواح الموتى».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

كريم السعدون.. شاعر اللون وصوت الإنسان في فضاء التشكيل

بروتريه: عبد الستار ناصر.. السارد الذي حكى سيرته بشجاعة

رواية سونتاج (في أمريكا) عن الهجرة واكتشاف الذات

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

أنشودة المقهى الحزين

مقالات ذات صلة

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟  هنا مكمن قوتك
عام

انت تتجنب الاختلاط بالآخرين ؟ هنا مكمن قوتك

رامي كامنسكي* ترجمة: لطفية الدليمي يُمضي بعض الأشخاص حياتهم وهم يشعرون بأنهم خارج المكان Out of Place؛ بمعنى أنّهم لا ينتمون إلى أيّ من المجموعات أو التجمّعات المعروفة اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو مهنيًّا. يبدو...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram