المدى / سيزر جارو
في العراق، حيث ينص الدستور على المساواة بين المواطنين وينصّب حماية للأقليات، يعيش الصابئة المندائيون في واقع يومي يختلف في جوهره عن تلك النصوص. فبين النصوص القانونية وحدود التطبيق، تتشكل شبكة من الممارسات الاجتماعية اليومية، التي لا تُكتب في القوانين، ولا تُعلن في البيانات الرسمية، لكنها تؤثر مباشرة في حياة هذه الأقلية العريقة، وتدفع بكل من تبقّى منهم إلى التفكير في الرحيل من بلدهم التاريخي.
الصابئة المندائيون، الذين ارتبطت حياتهم وطقوسهم بالماء والأنهار، شكلوا عبر قرون جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العراقي. لكن بعد عام 2003، ومع تصاعد موجات العنف والاضطرابات الأمنية، شهدت أعدادهم تراجعًا حادًا، إذ تشير تقديرات رسمية متذبذبة إلى أن تعدادهم في العراق انخفض إلى ما دون 50 ألفًا، بعدما كان عددهم عشرات الآلاف قبل ذلك بمراحل طويلة من الوجود التاريخي.
لا يعبر التمييز الذي يواجه الصابئة المندائيون في العراق دومًا عن حملات عنف صريحة، بل غالبًا يظهر في تفاصيل صغيرة تتراكم مع الزمن؛ هو تمييز غير معلن، لا يُوثَّق أو يُبلَّغ عنه، لكنه يترك أثرًا عميقًا في حياة الناس. تقول مارينا انهر، صابئية من بغداد، لـ «المدى»: «ليس هناك قانون يمنعنا من العمل أو التنقل، لكنّ النظرة التي نستقبلها يوميًا تُشعرنا بأننا مختلفون بسلبيتها». وتضيف: «في بعض الأسواق، عندما يعرف التجار أننا صابئة، يتراجع البعض عن التعامل معنا مباشرة، كأننا غير مرحّب بنا». ويشير تقرير أوروبي إلى أن بعض المندائيين يتعرّضون لمضايقات لفظية وتحامل مجتمعي، ما يدفع بعض النساء إلى ارتداء الحجاب رغم عدم وجوده في عاداتهن الدينية، لتجنّب الإيذاء الاجتماعي.
وفي أحد الأمثلة الموثّقة في بغداد، تعرضت عائلة من الصابئة إلى الاستيلاء على عقارها خلال غيابها في الخارج، عندما كانت السيدة صاحبة العقار تتابع إجراءات مغادرتها للعلاج والسفر إلى أوروبا. تقول التقارير إنّ ملكية العقار تمّت تزويرها بأوراق غير صحيحة، وسط شبهات تدخل أطراف نافذة، ما جعل الأسرة بلا مأوى حين عادت. هذه التجاوزات ليست مُعلنة كتمييز، لكنها تُمارَس تحت ستار «الإهمال» أو «الفساد»، وتترك آثارًا أكبر من أي نص قانوني بسبب غياب آليات فعّالة للحماية والمساءلة.
وفي سوق العمل، يواجه الصابئة المندائيون تحديات غير معلنة تتمثل في الاستبعاد من وظائف حكومية أو اختيارات غير معلنة في التعيين، خصوصًا في الجهات التي تعتمد علاقات تفضيلية قبل الكفاءة، ما يكرّس إحساسًا بعدم العدالة. وفي البصرة، على سبيل المثال، يشير ناشطون إلى غياب واضح للصابئة في المناصب الحكومية بالرغم من وجودهم التاريخي، ما يُعزى إلى تقاتلات حزبية وسياسية حول توزيع المناصب. عباس لميّع، وهو صابئي يعمل في القطاع الخاص في البصرة، يروي لـ «المدى»: «أودّ أن أعمل في مؤسسة حكومية أو حتى أمنية، لكن الطلبات تُرفض أحيانًا دون سبب واضح. البعض يعلّل بالخبرة، ولكن الحقيقة أن لا وجود لمندائي واحد في الجيش أو الشرطة كما يُشهد رسميًا». وتشير بيانات محلية إلى أن الطائفة لا تملك تمثيلًا حقيقيًا في الأجهزة الأمنية والدولة، ما يضاعف شعورهم بالعزلة.
وفي المدارس، يروي أولياء أمور ومعلّمون أن طلابًا مندائيين قد تعرّضوا لتعليقات عنصرية أو سخرية حول معتقداتهم، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بطقوس الطهارة المرتبطة بالماء. هذه التجاوزات، رغم أنها تبدو بسيطة على السطح، فإنها تترك أثرًا نفسيًا عميقًا لدى الطلبة، وتحملهم عبء «تفسير أنفسهم» يوميًا.
ومن التجاوزات التي يواجهها المندائيون أيضًا ما هو متعلق بالعقارات والممتلكات؛ ففي أحد الحوادث الموثّقة، استعصى على السيدة الصابئية سليمة استرجاع ملكيتها لأرض كانت بحوزتها منذ سنوات، بعد أن تم تزوير أوراقها من قبل شخص متنفذ خلال غيابها، واحتُفظ بها دون مساءلة حقيقية. من جهته، يرى نعوم رباح، أحد وجهاء الطائفة المندائية في بغداد، أن استمرار الممارسات اليومية للتمييز غير المعلن يزيد من ضغوط البقاء على الطائفة، ويقول: «نحاول الحفاظ على طقوسنا الدينية والتعليمية رغم قلة الموارد والأعداد المتناقصة، لكن كل مناسبة دينية تُقام بحضور محدود، ويبدو أن المجتمع بدأ ينسى حضورنا التاريخي».
ويضيف نعوم أن الحل لا يكمن فقط في الدعوات الرسمية أو تشجيع العودة، بل في بناء بيئة اجتماعية وقانونية تمنح الطائفة شعورًا بالأمان والقبول. ويؤكد: «إذا لم يشعر الصابئي بالأمان في بيته، وعمله، ومدرسته، فلن يفكر في البقاء طويلًا»، داعيًا إلى سن تشريعات تحمي الأقليات وتجرّم التمييز المجتمعي، سواء أكان معلنًا أم خفيًا. وفي الوقت نفسه، يواصل الصابئة المندائيون جهودهم للحفاظ على هويتهم، عبر التعليم الديني، وتوثيق التراث، وربط الأجيال الجديدة بالثقافة المندائية، ومحاولة بناء جسور التواصل مع المهجر، لكن هذه الجهود تظل هشة ما لم تقترن بسياسات وطنية شاملة لضمان التنوّع والعدالة الاجتماعية. هذه التجاوزات، وإن لم يُبلغ عنها كجرائم قبلية أو عرقية، إلا أنها تظهر بوضوح في تقاطعات الحياة اليومية، وتُساهم في توسيع الفجوة بين القانون والممارسة.
أزمة الصابئة المندائيين اليوم ليست فقط في التمييز الاجتماعي، بل في تراجع عددهم بشكل حاد، الأمر الذي ينعكس على هوية المجتمع نفسه. تشير تقديرات رسمية وشبه رسمية إلى أن هجرة أكثر من 70% من أفراد الطائفة قد حدثت منذ العقدين الماضيين، مع تشكّل جاليات كبيرة في أوروبا وأستراليا، بينما لا تزال العائلات المتبقية في العراق تواجه خيارات صعبة بين البقاء والرحيل. ياس ناصر، صابئي أصوله من الناصرية، يروي لـ «المدى»: «أحلم بالعودة إلى وطن أجد فيه مساواة حقيقية، لا مجرد نصوص دستورية. أشتاق للأنهار وطقوس آبائي، لكن في الغربة أشعر أنني أكثر قبولاً من بعض الأحيان هنا». ويضيف: «العودة ليست مسألة أمن فقط، بل مسألة قبول، شعور بالانتماء يُحاسَبُ عليه المجتمع قبل القانون».
ويؤكد خبراء أن عودة الصابئة المهاجرين لن تتحقق ما لم تواكبها سياسات اجتماعية تعالج جذور التمييز غير المُعلن، عبر توعية المجتمع، وضمانات حقوقية واضحة، وتطبيقًا عمليًا للمساواة في التعليم والعمل والحياة العامة. وبينما ينص الدستور العراقي على حماية الأقليات، فإن غياب التنفيذ الفعّال والرقابة على تجاوزات المجتمع اليومي يترك مساحة لتمييز غير معلن يتغلغل في حياة الناس، ويفرض إرثًا ثقيلًا من الإقصاء النفسي والاجتماعي. ويقول محللون إن الطريق إلى الحدّ من هذه التجاوزات لا يمر فقط عبر التشريعات الصارمة، بل عبر برامج توعية اجتماعية تبدأ من المدارس والإعلام، وتُعيد تعريف العراقي كمجتمع متعدد الثقافات، لا ككيان يتعامل مع الاختلاف كاستثناء أو تهديد.









