حسين السلمانتقف في مقدمة أهمية المكان قدرته الكبيرة في التحول الى أبعاد فكرية متنوعة تضيف معاني جديدة للحدث وتحريك وتفعيل كا ما هو ساكن وثابت المعنى ونقل الدلالات التعبيرية من موقعها الثانوي الى المواقع المتقدمة في البناء الفكري للعمل الإبداعي. ولأن السينما فن شمولي استطاع ان يستوعب كل منجزات ومكونات العملية الإبداعية للفنون القديمة الأخرى مثل المسرح والموسيقى والشعر ،
فانه ـ الفن السينمائي ـ استطاع ان يتألق في ذات الوقت متخذاً لذاته شكلاً جمالياً خاصاً به جعله ينتج مسارات حديثة أعطت الكثير من الإمكانات التي لم تستطع بقية الفنون الأخرى الارتقاء إليها،وفي ذات الوقت دفعت السينما الفنون الأخرى للبحث عن صيغ جديدة تتلاءم مع نهوضها وتطور أساليبها الخاصة.ويكفي ان نستذكر الاحتدامات التي حصلت ما بين الفنون في منتصف القرن الماضي، التي اراها ضرورة حضارية خدمت الحركة الجمالية لكل الفنون وأعطتها زخماً كبيراً من التقدم والابتكار ، ولولا ذلك لما وصلت اليه كل هذه الإبداعات الرائعة للفن والأدب معاً. فإذا كنا قد فهمنا السينما بقدرتيها الذاتية والموضوعية بأنها قادرة كل الاقتدار على تصوير ( البعد في الزمن مع البعد في المكان) فانها بهذا المنجز جسدت خصوصيتها وتفردها عن المتطلبات الإبداعية للفنون الأخرى .فهي أكدت عبر تفاعلها التطبيقي بانها لا تقف عند حد ثابت كما انها لا يمكن ان تعيش عند حد المطلق، لان كل تلك العلاقات القائمة بين البعدين تكون متغيرة في الكثير من الحالات الطبيعية والتجريبية. فالسينما قادرة ،عبر أشكال متنوعة ،ان تجعل من الزمن بعداً من أبعاد المكان ، كما هو الحال عندما نؤكد ان المونتاج يتصف بالجمالية الإبداعية فهو أيضاً ينتقل من الوصف الى التأكيد على التعبير، وهذا يوصلنا الى فهم جديد هو ان المكان يتجه في الكثير من الحالات الى التعبير عن انماط نفسية عديدة مثل الخوف،الشك، التحفظ ،مثلما تشير الدراسات السايكولوجية والانثروبولوجية الى ان الكائنات الحية ضمن بقعة معينة (مكان) تشعر بامتلاك الفضاء وفقا لنظام قدرتها في القوة .لذا نجد ان تجاورية المكان وأهمية أنماطه تكشف المسافات القائمة بين الفضاء والشخصيات. ولأجل وصول الاستنتاجات الى النظرية الوضعية يتوجب تقريب الأشياء المشار إليها وحل الألغاز والرموز.ولنأخذ على سبيل المثال نوعا من المسافات التي نطلق عليها تسمية المسافات الصميمية المتجسدة عبر اللقطة الأكثر قرباً من المكان والشخصية ،او انها تتحرك نحوها بسلاسة (هنا ليس المقصود اللقطة الذاتية ، بل هي لقطة موضوعية يراها المخرج بعين المشاهد)، بمعنى ينتقل شعور الكاميرا الى شعور المشاهد . وقامت هذه الدراسات بتحديد مسافات معينة خصصت لتلك الانماط التي يمكن تحديدها على الشكل الآتي:أنماط صميمية، أنماط شخصية، أنماط اجتماعية، أنماط عمومية.وقد أشارت الدراسات أيضاً إلى ان هذه الأنماط بحسب مسافاتها تختلف من حضارة الى أخرى ومن شعب الى شعب آخر اعتماداً على تطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعلى تقدمها الحضاري، وملخص ذلك انه كلما اتسعت المسافة ما بين الموضوع(المكان المراد تصويره)ويسمى موقع التصوير والكاميرا( المسافة ما بينهما) تصبح الأفكار الناتجة من هذا التفاعل هي نتائج حيادية ،اي ان المكان يحمل معنى استقلال عاطفي إضافة الى وجود تحفظ ذهني. لهذا وضعت السينما عبر مراحل تطورها مجموعة من المبادئ والقوانين للمكان،ويمكن ان ندرج بعضاً من مستوياته وهي : المستوى الدرامي، المستوى الفكري، المستوى التشكيلي ،نستنتج من ذلك إن للمكان أبعاده المادية والنفسية والاجتماعية باعتباره شخصية قائمة بذاتها، ولأنها بناء تحتي للأحداث إضافة إلى شكل المكان وموقعه، يصح على ضوء تلك الاستنتاجات ان نقول ان المكان وسط تعبيري رمزي، كما هو الحال مع الفضاء فهو وسيلة تعبيرية( تستجيب بها الى الموجودات والاجسام ضمن مساحة معلومة وهي مصدر ثابت للمعلومات في الحياة العامة وكذلك في الفن. فالسينما (التي تعد فن المكان)تنظر الى طبيعة المكان والى حجمه وحركته ، وهذه عناصر يتفاعل معها الممثل في اي مكان معلوم يمكنه ان يشكل أفكاراً إنسانية تعالج الكثير من الإشكاليات التي تتناولها السينما. تنظر السينما للمكان من زاوية خاصة بها التي يمكن ان نطلق عليها تسمية عمق الميدان للصورة . ان هذا الجانب الإبداعي كثيراً ما تهتم به السينما واستطاعت عبر تحولاتها الكثيرة والمتلاحقة ان تجعل منه إضافة جديدة للأنماط الفكرية التي يتمتع بها، لان عمق ميدان الصورة وحركة الكاميرا يتبادلان المواقع مع المونتاج، حيث تمت معالجة المكان بأشكال متعددة ، وقد ظهر هذا جلياً في إعادة بنائه أو ربطه بمجمل حركة الحدث وتتابع اماكن ثانوية يتم توظيفها مونتاجيا لتعطي للصورة ابعادها المكانية من الناحيتين الجمالية والتركيبية.إن تركيب تلك الكتل والخطوط والاحجام والاشكال وخلق العلاقات المكانية تنتج لنا صورة قادرة على دعم المستويات الدرامية والنفسية والاجتماعية بأفكار تدفع نحو الامام بالحدث والشخصيات ولتجعل المشاهد عنصراً فعالاً وحيوياً في المشاركة بكل التنويعات الفعلية التي تقدمها الشاشة وان كانت الاحجام والمساحات نسبية، الا انها قادرة
المكان حينما يتحوّل فكراً
نشر في: 30 مارس, 2011: 05:13 م