TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: ذلك الجمال، تلك البهجة

باليت المدى: ذلك الجمال، تلك البهجة

نشر في: 29 ديسمبر, 2025: 12:11 ص

 ستار كاووش

وصلتُ الى الجانب القديم في مدينة كولن، والذي يطلق عليه الألمان تسمية (البلدة القديمة)هنا يَمسكُ التاريخ يدك ويمضي بك في دروب المدينة التي خبرتْ جمال السنوات وبدتْ كإمرأة جذابة وصلت لقمة فتنتها حتى بعد أن تخطت الأربعين. شوارع ضيقة وأزقة قديمة تتداخل وتتفرع الى ساحات تظللها الأشجار والتماثيل المختلفة. تابعتُ ببصري نهر الراين وهو يمضي بهدوء جنب خاصرة السوق القديم، فيما خطوات الناس على الرصيف المحاذي للنهر تمضي في اتجاهات مختلفة هنا وهناك بحثاً عن مقاهٍ تركوا فيها حكايات ومواعيد مؤجلة. دخلتُ في شارع ضيق توزعت على جانبية يافطات بعض المطاعم والحانات، وانفتحتْ نهايته على ساحة صغيرة كان ينتظرني فيها صديقان في غاية المودة واللطف هما (شال) و (تينوس)، في الحقيقة هما شخصان لا أعرفهما، وبصراحة أكثر هو نصب برونزي لشخصين خياليين لم يعيشا حقاً في هذه المدينة، بل إنبثقا من المخيلة الشعبية لمدينة كولن، وصارا جزء من المكان وتاريخه وكل تفاصيله وكأنهما حقيقة ثابتة. هكذا هو الخيال، يفعل فعله ويجعل بعض التفاصيل كأنها حقيقة واقعة. وبما أني أعشق التفاصيل الغريبة والنادرة في المدن التي أزورها، لذا لا أفوِّت هذه اللقى التي تتلألأ في الشوارع والساحات وتؤثر بكل من يفتنه الضوء واللون والحكايات التي تأتي من أماكن بعيدة.
هكذا سعيتُ هذا الصباح لقضاء بعض الوقت قرب هذين (الصديقين) مادمتُ أقضي بضعة أيام في مدينتهما التي امتزجت فيها الأساطير مع الواقع، واختلطت الحكايات القديمة مع الأغاني الألمانية الشعبية التي تتسلل للأسماع من بوابات الحانات والمقاهي.
إستقبلني بريق البرونز من بعيد قبل أصل اليهما، وتوضحت معالم الرجلين وهما يقفان قبالة بعضهما كأنهما يتبادلان أطراف الحديث. لكني مع ذلك تريثتُ قليلاً قبل أن أقترب منهما، وانتظرتُ حتى تفرقت مجموعة النساء اللواتي أحطن بهما. فهذه كانت تضع يدها على كتف (شال)، وأخرى تمسك بأنف (تونيس)، بينما صديقتها تحضنه من الخلف، وهناك امرأة رابعة تعانق (شال) بحرارة، وواحدة تقدمت بسرعة ووضعتْ قدميها على قَدَمَي (تونيس) بطريقة مسرحية. وهنا تيقنتُ أن بعض النساء لا يتركنَّكَ بحالك حتى لو كنتَ تمثالاً!
توارتْ النساء في شارع جانبي، فإقتربت من الرجلين البرونزيين الشبيهين بشخصيات القصص المصورة، وتأملتُ الالتماعات التي تركها إحتكاك أيدي الناس على أنفَي الرجلين الطريفين، حيث تقول تقاليد المدينة بأن من يمسك أنف أحدهما أو يضع قدمه على أقدامهما سيكون من نصيبه الكثير من السعادة. لم تأخذني الحماسة كثيراً لفعل ذلك، رغم أني تمتعت بمنظر الناس الذين يحاولون التماهي بلمسهما والاقتراب منهما أكثر وأكثر. وبعيداً عن كل ذلك أعجبتني تقنية العمل ومكانه المحاط ببعض المطاعم الصغيرة.
لا أحد يعرف حاضر المدينة ويهتم بتاريخها، إلا ويعرف هذين الرجلين القريبين من قلوب الصغار والكبار لسنوات بعيدة جداً. واللذان يعود وجودهما الى مسرح (هانشن) للعرائس الذي تأسس سنة ١٨٠٣، وتم ابتكار هاتين الشخصيتين سنة ١٨٥٠، ليمثلان تناقض هذه المدينة وتكاملها أيضاً، فهما روح الناس ومرآتهم. فبينما يعكس (تونيس) طيبة ولُطف أهل كولن وبساطتهم التي تصل أحياناً حد السذاجة، فهناك أيضاً (شال) بعينيه الغريبتين وبدلته الأنيقة، حيث يعكس دهاء ومكر أهل المدينة وروحهم المادية التي يتمتعون بها. يقف (شال) بكامل أناقته ويحرك يده أمام صديقه تونيس وكأنه يحاول إقناعه بشيء ما، أو ربما يريد أن يمرر عليه خديعة جديدة، فيما يقف تونيس مبتسماً وينظر اليه ببراءة. وهكذا اجتمع الرجلان كأسطورة من أساطير المدينة، ليؤكدان بأننا من خلال الاختلاف والتناقض يمكن أن نكمل بعضنا البعض، فالتباين في النهاية هو الذي يمنح الحياة هذا الغنى وهذه الجاذبية.
إضافة الى ذلك، يُثبت هذا العمل، أن الجمال جزء حيوي من حياتنا، وأن اللطف هو ليس فقط ما يتركه البشر في أرواحنا، بل هو أيضاً تلك البهجة التي تتركها الأعمال الفنية في أرواحنا. هنا شعرتُ بأن تلك السعادة التي يمنحها لي الناس الحقيقيون، لا تختلف كثيراً عن هذه التي منحها لي البرونز الذي صُنِعَ منه هذا العمل.
ودعتُ التمثالين (الصديقين) مبتهجين تحت الشمس بمحاذاة حانة (براو هاوس) وتوجهت لكنسية القديس مارتن المقابلة التي ظلَّلَتْ المكان بإرتفاعها الشاهق، بإنتظار مشاهدة محتوياتها الجميلة والاطلاع على تاريخها العريق في جولة هادئة أخرى تناسب هذا الصباح.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: ليلة اعدام ساكو

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

العمود الثامن: ب.ب وعصر الفخامات

 علي حسين عرفت السينما عبر تاريخها الذي تجاوز القرن بأعوام، الكثير من النجمات ملأنَّ الشاشة سحراً وجمالاً، من غريتا غاربو الى إليزابيت تايلور، مروراً بمارلين مونرو وريتا هيوارت والحسناء بريجيت باردو أيقونة الجمال...
علي حسين

باليت المدى: ذلك الجمال، تلك البهجة

 ستار كاووش وصلتُ الى الجانب القديم في مدينة كولن، والذي يطلق عليه الألمان تسمية (البلدة القديمة)هنا يَمسكُ التاريخ يدك ويمضي بك في دروب المدينة التي خبرتْ جمال السنوات وبدتْ كإمرأة جذابة وصلت لقمة...
ستار كاووش

دعوات حصر السلاح بيد الدولة برغماتية سياسية أم خطابات إعلامية؟

إياد العنبر في زحمة السجالات بشأن تشكيل الحكومة العراقية القادمة، بدأت الأنظار تتجه نحو دعوات "حصر السلاح بيد الدولة". والمفارقة أن الدعوات هذه المرة، لم تأت في خطابات شخصيات حكومية وسياسية، تكرر ضرورة حصر...
اياد العنبر

مجرد كلام : عبقرية الأحزاب

عدوية الهلالي خلال أي حكم ديكتاتوري ، يكون اكثر مايخشاه الناس هو الظلم فيلجأون الى الصمت أو المواجهة ويدفعون أثماناً باهظة في كلا الحالتين ، فاذا صمتوا فهم يشاركون في اطالة حُكم الدكتاتور ويمنحونه...
عدوية الهلالي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram