المدى/متابعة
ثمة تباين واضح في أسعار المواد والسلع في الأسواق البغدادية، قلما يُشهد له مثيل في الأسواق الأخرى ببقية المحافظات؛ حيث تتفاوت الأسعار بشكل لافت من سوق إلى آخر في العاصمة، وقد تصل إلى الضعف أو أكثر، دون أن يمت هذا الارتفاع والتباين في الأسعار بصلة لقانون العرض والطلب الذي تتحدد الأسعار بموجبه عادةً.
وفي أسواق بغداد المختلفة من الكرخ إلى الرصافة، يتضح التفاوت في أسعار المواد الغذائية وغيرها من منطقة إلى أخرى؛ ففي منطقة المنصور على سبيل المثال، يصل سعر الكيلوغرام الواحد من السمك إلى 20 ألف دينار، وفي مناطق أخرى مثل البياع يبلغ سعر الكيلوغرام الواحد من المادة الغذائية نفسها عشرة آلاف دينار، فيما ينخفض السعر للكيلوغرام الواحد في أطراف مدينة بغداد ليبلغ 5 آلاف دينار فقط.
وتسري هذه المفارقة في الأسعار على جميع المواد الغذائية والبضائع المختلفة لتشمل الأجهزة الكهربائية والمواد الأخرى، حيث يثير اختلاف الأسعار العديد من علامات الاستفهام والتعجب لدى المواطنين الذين يرون أهمية أن تسعى الحكومة لإيجاد تسعيرة ثابتة من أجل استقرار الأسواق ومنع التلاعب بها.
ويؤكد المواطن راضي حسون كريم، (30 عاماً)، في تصريح تابعته (المدى): «نحن نشتري السلع نفسها بسعر يختلف من منطقة إلى أخرى، ونضطر أحياناً للذهاب إلى مناطق بعيدة تكون فيها الأسعار منخفضة»، مشيراً إلى أن «أصحاب الدخل المحدود لا يمكنهم مجاراة الغلاء والتلاعب بالأسعار».
ويعزو بعض التجار ارتفاع الأسعار إلى عوامل عديدة، ومنها الضرائب والرسوم الفادحة التي تفرض عليهم، وهو ما يدفعهم إلى رفع الأسعار ومضاعفتها. وفي هذا السياق، يقول تاجر المواد الغذائية علي سلمان ذياب، إن «غلاء المواد بكل أنواعها أصبح واضحاً في السوق العراقية بسبب الضرائب التي تدفع التجار إلى رفع أسعار السلع».
ويوضح في حديثه أن «أصحاب المحال التجارية أو أصحاب العربات المتجولة لا تترتب عليهم ضرائب أو أجور إضافية، ومع ذلك فهم يضيفون أرباحاً مبالغاً فيها على السعر الذي يشترون به بضاعتهم بالجملة»، مؤكداً أن «هذه الأرباح تتفاوت بين أصحاب المحال حسب المنطقة ونوع السلعة».
أما أصحاب المحال التجارية، فيقولون إن أسباب تباين الأسعار تعود إلى الاختلاف في إيجارات المحال من منطقة إلى أخرى. وبهذا الصدد، يرى مرتضى اللامي، وهو صاحب محل مواد غذائية في منطقة الجهاد، أن «أصحاب المحال هم الملامون بشأن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها، لأنهم في الواجهة ويتم تعامل المواطنين معهم بشكل مباشر»، مشيراً إلى أن «المواطن لا يبصر ما خلف الكواليس، ويصب غضبه على البائع المسكين».
ويوضح اللامي أن «معظم الباعة، وأنا أحدهم، لا نمتلك محالاً بملك صرف، فأغلب محالنا مؤجرة، ويرتفع إيجارها السنوي من عام لآخر، وليست ثمة جهة تراقب الإيجارات وتنصف أصحاب المحال الذين هم بدورهم ضحايا لأصحاب الملك».
ويلفت اللامي إلى أن «أسعار الإيجارات تختلف من منطقة لأخرى؛ فمثلاً قيمة إيجار المحل الصغير في أسواق المنصور تصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف دولار شهرياً، بينما توجد محلات في أطراف بغداد لا يتجاوز إيجارها الشهري 150 ألف دينار فقط»، موضحاً أن «هذا التفاوت في بدل الإيجارات ينسحب على ارتفاع أسعار المواد، إذ تدفع الإيجارات الغالية أصحاب المحال إلى رفع أسعار المواد والسلع لتغطية الإيجار وتحقيق أرباح متوسطة».
ويتابع اللامي قائلاً: «لا يتوقف الأمر على أسعار الإيجارات وحسب، بل هناك الدوائر البلدية التي تطالب بمبالغ سنوية لقاء خدمات التنظيف وغيرها، وهذا كله يؤثر بالطبع على الأسعار».
وكانت وزارة التجارة قد أعلنت في وقت سابق عن جهودها لمتابعة السوق المحلية عبر افتتاح مراكز تسوق تعاونية لتوفير السلع بأسعار تنافسية ودعم الشرائح الفقيرة وتخفيف الأعباء عن الأسر وتلبية احتياجاتهم الأساسية. وعلى الرغم من افتتاح وزارة التجارة للعديد من أسواق «الهايبر ماركت» التعاونية في بغداد وبعض المحافظات، ما زال التباين في أسعار المواد الأساسية يشكل تحدياً كبيراً للجهات المعنية.
في المقابل، يرى الخبير الاقتصادي علي دعدوش أن «موضوع اختلاف الأسعار بين المناطق نابع من اختلاف الدخول الفردية، حيث توجد مناطق مثل المنصور أو اليرموك تمتاز سكانها بدخل مرتفع»، مبيناً أن «البائع هناك يبيع سلعه ومواده بشكل مضاعف؛ فيرتفع سعر الموز على سبيل المثال في هاتين المنطقتين عن سعره في مناطق الشعلة أو مدينة الصدر».
ويضيف دعدوش أن «الاختلاف في أسعار المواد يعود لعوامل اقتصادية هيكلية في بيئة الأعمال ببغداد، منها تكاليف التشغيل من حيث إيجار المحل؛ ففي منطقة راقية قد يكون عشرة أضعاف الإيجار في منطقة شعبية، ويتم تحميل هذا الفارق مباشرة على سعر السلعة، بالإضافة إلى كلفة اللوجستيات وسلسلة التوريد من حيث وصول الشاحنات وتكاليف النقل، وحتى الإتاوات غير الرسمية أو صعوبة الدخول لبعض المناطق، وهذه كلها عوامل تؤثر في السعر النهائي».
وبحسب دعدوش، فإن القوة الشرائية ونمط الاستهلاك لهما دور كبير في الاختلاف؛ ففي المناطق المرفهة يتقبل المستهلك سعراً أعلى مقابل خدمة أفضل من ناحية «التكييف والترتيب والتغليف»، بينما تعتمد المنافسة في المناطق الشعبية كلياً على السعر الأدنى. ويتحدث الخبير قائلاً إن «تعدد الحلقات الوسيطة له دور في الاختلاف، ومن الملاحظ أنه يتم في بعض المناطق الاعتماد على (علوات) قريبة من المناطق السكنية، بينما يضطر تجار في مناطق أخرى للشراء من موزعين ثانويين، مما يضيف هامش ربح جديداً في كل حلقة».
ويكمل دعدوش أن «الاختلاف الطفيف في الأسعار أمر طبيعي من الناحية الاقتصادية كونه يعكس تكلفة الفرصة البديلة والمكان، لكن الاختلاف الكبير في السلع الأساسية المدعومة أو الاستراتيجية هو مؤشر خلل واضح في الرقابة وكفاءة السوق».
ويتابع حديثه بالقول إن غياب التسعيرة يجعل التجار يرفعون الأسعار فور صعود الدولار، لكنهم «يتناسون» خفضها عند نزوله لعدم وجود مرجع قانوني يحاسبهم على السعر، وهذا ما يطلق عليه «بلزوجة الأسعار».
ووفق دعدوش، فإن الحد من تفاوت الأسعار وضمان حماية المستهلك يقتضي العمل على مسارات أبرزها: إعلان وزارة التجارة عن سعر استرشادي يومي للسلع الأساسية عبر تطبيق ذكي، وإلزام المحال الكبيرة باستخدام نظام «الباركود» والفواتير الإلكترونية لضمان الشفافية الضريبية والسعرية، إضافة إلى العمل على تقليل الحلقات الوسيطة التي تزيد من التكاليف عبر تشجيع البيع من المصنع إلى المستهلك مباشرة من خلال منافذ حكومية أو منافذ مدعومة.









