بقلم: فخري كريم الطائفية، كما الاختلافات العرقية والعنصرية والتنوعات الأخرى ، كانت في أساس بنية الإمبراطورية العثمانية المهزومة والنسيج الحي لمجتمعات " الولايات والأقاليم " العثمانية التي ورثها المستعمرون بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية .
وقد استثمرت بريطانيا وفرنسا هذا التنوع لتعتمدها في إقامة الكيانات العربية ، آخذتين بالاعتبار إقامة كل دولة عربية وهي تحمل في كيانها بذرة انقسامها وتفجرها ، وأرست بذلك احد أوجه سياسة "فرق تسد" التي اعتمدتها في العالم العربي ، منذ معاهدة سايكس بيكو.لقد أصبح هذا التنوع الذي كان يمكن أن يكون عامل وحدة ، أداة للانقسام والفرقة والشكوكية في المجتمعات والدول العربية وعنصر تهديد لوحدة نسيجها الاجتماعي .. وقد غذى هذا الإنقسام التركيب المعقد للدول العربية التي لم يراع في إقامتها دور الأكثرية في السلطة السياسية وفي بناء الدولة أو مراعاة حقوق القوميات والأقليات الدينية والعرقية وغيرها ، مما جعل منها عامل تعميق للانقسام، وذلك في ظل غياب تام لمفاهيم اقامة الحكم والحقوق على أساس المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات، وهو غياب بقي ملاصقا لكل أنظمة الحكم التي أنشئت في ظل الاحتلالات الغربية أو في ظل الدكتاتوريات التي أعقبت تلك المرحلة . كانت الدولة العراقية إحدى ضحايا تلك السياسة التي كرستها معاهدة سايكس بيكو واعتبرها القادة القوميون العرب انتصاراً لهم وقاعدة لوحدة الأمة ، دون أن يأخذوا بالاعتبار التعامل مع التنوع واستحقاقاته السياسية . بل اعتبر منذ ذاك أن أي حديث عن حقوق واستحقاقات خارج "القومية العربية" مؤامرة استعمارية وصهيونية ودعوة لتمزيق الأمة العربية والحيلولة دون انجاز وحدتها القومية .لقد أقيمت الدولة العراقية ، بحدودها الراهنة ، لتضم العرب والكرد والتركمان والآشوريين ومكونات أخرى ، مسلمين ومسيحيين وإيزديين وصابئة ، حيث مثّل السكان الشيعة الأكثرية في الدولة ، لكن البريطانيين استوردوا لها ملكاً من الحجاز ، واستقدموا موظفين وعسكريين من كوادر الإمبراطورية المنهارة، حرصوا على أن يكونوا من لون مذهبي معين . وكان ممكناً أن تستقيم أمور الدولة الوليدة لو أنها أرسيت على قاعدة المواطنة ، وتكافأت الفرص فيها للمواطنين دون تمييز أو محاباة . لكنها على العكس من ذلك عمقت الانقسام في المجتمع وكرسته على أساس حكم أقلية طائفية وتمييز فض للأكثرية، وتعاملت مع أفرادها كمواطنين من الدرجة الثانية ، وهذا ما فعلته مع الشعب الكردي والمكونات الأخرى .ورغم التركيبة السياسية المخلة التي ابتكرتها بريطانيا للعراق، فإنها لم تستطع إيجاد شرخ في المجتمع ،طوال فترة الانتداب، وكذلك في مراحل النضال الوطني ضد الاستعمار والمعاهدات الجائرة التي عقدتها بريطانيا مع الحكومات الموالية لها ، لان الهم الوطني والتشوف لانتزاع السيادة والاستقلال وانجاز المهام الملحة الملقاة على عاتق القوى الوطنية بمختلف مشاربها عطّل النوايا المبيتة لخلق فتن تضع العراقيين في مواجهة بعضهم البعض ،وإمرار السياسات والمعاهدات البريطانية والنهج الذي تواطأت الحكومات العراقية الصنيعة لها لفرضها على العراقيين . وطوال مراحل النضال الوطني ظل المجتمع العراقي متماسكاً، توحده الإرادة الوطنية المشتركة لتحقيق الأهداف الوطنية والديمقراطية ، واقتصر التمييز الذي اتخذ صيغة عرف غير مقنون في المراتب العليا من هياكل الدولة وأجهزتها ، وحتى على هذا الصعيد لم يتخذ التمييز الطائفي ، طابعاً فاضحاً أو استفزازياً ، إذ شهدت المراحل المختلفة من العهد الملكي اختراقات، انعكست في تبوؤ شخصيات من مختلف المكونات لمراكز بارزة في الحكومة والجيش والقوات المسلحة ، بما في ذلك رأس الحكومة وقيادة الأركان والشرطة وغيرها من المواقع الحكومية. إن الإرادة الوطنية "من تحت" وقوة تأثير الحركة الوطنية التي أصبحت مرجعية سياسية للعراقيين في مواجهة الاستعمار والحكومات الموالية له ، أجهضتا المساعي الهادفة الى تفريق العراقيين وتشتيت جهودهم في المواجهة. لكن البريطانيين عملواعلى قاعدة أخرى موالية لهم من سائر الطوائف والمكونات، من خلال توزيع الأراضي الشاسعة التي خلقت طبقة الإقطاعيين والملاكين الكبار، وكذلك إغداقها الامتيازات على رجالات الحكومة والموظفين الكبار والفئات الموالية لها ، والفرص التي خلقت منهم طبقة ارستقراطية تمد الحكومة بكوادرها وتربط مصالحهم بوجودها ، وعبر ذلك إدامة تأييدهم في مواجهة الحركة الوطنية ونضالاتها . إن التغير الكبير الذي طرأ على المجتمع ونال من وحدته، ولو بصيغة جنينية ، ارتبط بصعود الحركة القومية العربية وتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي ، حيث ركز نفوذه في المناطق المتميزة بأغلبية عربية سنية ، مثل الاعظمية ومدينة الموصل والمناطق الغربية من البلاد . وهي مناطق متاخمة لسورية التي شهدت ولادة وصعود التيارات القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي . لكن الطفرة النوعية في هذا الانقسام الطائفي في المجتمع ، وتكريس التمييز بكل مستوياته تحقق مع وثوب البعث الى السلطة واستيلاء العناصر الطائفية شديدة التخلف على قيادت
البحرين محوراً.... النظام الطائفي العربي يعمق الانقسام
نشر في: 4 إبريل, 2011: 10:47 م