حظ مصر من الدساتير "عثر"، كما يلخص الموقف لنا بعض خبراء التاريخ والقانون رؤيتهم بشأن المشهد الدستوري المصري عبر عدة عصور.
فقد أثمرت الثورات المصرية على مدار التاريخ دساتير لحماية الحريات والحقوق الإنسانية، ولكن "سرعان ما يجري الارتداد عن تلك الوثائق أو عدم التقيد بموادها من جانب السلطة الحاكمة"، على حد وصف الخبراء لبي بي سي.
وبينما منح الخبراء دستوري 1923 و1954 لقب أفضل الدساتير المصرية على الإطلاق تباينت آراؤهم في الدستور المطروح للاستفتاء حاليا، فمنهم من اعتبره الأسوأ ومنهم من رآه من أفضل الوثائق المصرية.
أفضل الدساتير
الدكتورة شادية فتحي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، تقول إن "الجميع يعلم أن دستور 1923 هو الدستور الأفضل لأنه كان قائما على أساس ليبرالي يحد من سلطات الملك، ولكن عدم تحمل السلطة التنفيذية هذا القدر من الحرية أنتج دستورا أزعم أنه أسوأ دساتير مصر على الإطلاق وهو دستور عام 1930 الذي مثل ردة عن الحريات بصورة عامة فوسع من صلاحيات الملك وقلص من حقوق الأفراد".
وتتمنى الدكتورة شادية، وهي المتخصصة في النظام السياسي المصري، لو أن خطوات البلاد في الشأن الدستوري تمضي إلى الأمام دائما. وتوضح قائلة: "لو حدث هذا لأصبحت مصر من أفضل دول العالم حماية للحقوق واعترافا بالحريات، ولكن هذه العثرات والتراجعات أجبرت البلاد على أن تبدو وكأنها تمضي خطوة للأمام ثم أخرى للخلف".
لم يعتمد "دستور السنهوري" الذي جاء بعد ثورة 1952
وهكذا هو حظ مصر مع الدساتير التي تصدر بعد ثورات. فهي "تضيف إلى حريات المواطن، ولكنها لا تلبث أن يجري الانقلاب عليها"، كما يلخص الدكتور حمادة إسماعيل أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر. ويقول لبي بي سي "دأبت الثورات المصرية بما فيها ثورة عرابي 1881 على أن تهدي لمصر دساتير قوية تنتصر لحرية المواطن، ولكن غالبا ما تحدث بعدها انقلابات دستورية لصالح السلطة التنفيذية التي تنتزع تلك الهدية الدستورية مرة أخرى".
وأشاد الدكتور إسماعيل بدستور عام 1954 المسمى بدستور السنهوري نسبة إلى عبد الرزاق السنهوري أهم أعضاء اللجنة التي شكلت بعد ثورة 1952.
ولكن هذا الدستور الذي يعتبره أفضل الدساتير المصرية على الإطلاق لم ير النور "لأنه لم يكن على هوى العسكريين"، وبدلا منه وضع دستور 1956 الذي قلص مساحة الحريات.
وتمنى الدكتور إسماعيل لو أن وثيقة السنهوري الشهيرة قد تم الرجوع إليها لدى إعداد مسودة الدستور الحالي.
ولكن المثير هو أن الدساتير المصرية السابقة كلها "وضعتها لجان معينة وليست منتخبة، وبالرغم من هذه الحقيقة فإن ذات السلطة التي تختار لجنة كتابة الدستور لا تحترم ما تنتجه، وعلى الأخص المواد الخاصة بفترات ولاية الحاكم وعمره، كما يقول إسماعيل، الذي يرى أيضا أن الجمعية التأسيسية الحالية لا يمكن أن يطلق عليها صفة "منتخبة دون تحفظ".
تعديل متوقع
ويستطرد إسماعيل قائلا: "والأكثر من ذلك، إنني أتوقع أن يتم تعديل النص الذي يحدد عدد سنوات ولاية الرئيس في الدستور المطروح للاستفتاء حاليا.
لكن ما جرى خلال التاريخ "يدفعني لهذا الاستنتاج، تماما كما حدث سنة 1980 حينما تم تعديل دستور 1971 لتمكين الرئيس من إعادة ترشيح نفسه لحكم البلاد لفترات غير محددة" كما يضيف.
ومن اللافت أن معظم ملاحظات الخبراء بشأن الدستور الجديد تتركز على صياغة عباراته، التي جاءت ركيكة، على حد وصف الدكتورة شادية فتحي، التي توضح بالقول إن "كل حرف من الحروف التي تدون بها الدساتير من المفترض أن يكون موزونا بميزان الذهب، ولكن ما نراه في الدستور الحالي لا يرقى لأن يكون معبرا عن قيمة مصر الثقافية فضلا عن تاريخها الدستوري العامر".
استمر العمل بدستور عام 1971 في عهدي السادات ومبارك
الدكتور رمضان بطيخ أستاذ القانون الدستوري، يرى أن مواضيع الصياغة هذه "يسأل فيها أهل اللغة العربية والأدب لا فقهاء القانون، ولكن هذه الوثيقة تضم أفضل دستور عرفته مصر في تاريخها"، على حد قوله.
ثورتان متشابهتان
وقال الدكتور رمضان، وهو أيضا عضو في الجمعية التأسيسية التي أعدت مسودة الدستور المطروح للاستفتاء، لبي بي سي، إن الهجوم على الجمعية التأسيسية "يشبه إلى حد كبير الهجوم على لجنة عينها الملك لصياغة دستور 1923 الذي سماه سعد زغلول في ما بعد بأعظم دستور في مصر".
وأضاف: "الشعب لم يشارك في صياغة أي دستور عبر تاريخ مصر إلا بعد ثورة يناير 2011 حيث شكلت عبر طريق ديمقراطي بالرغم من كل الانتقادات المثارة حول اللجنة. وبالإضافة إلى هذا فإن هناك مشاركة من جانب الشعب عبر مقترحاته وانتقاداته والتي تصل اللجنة بالإنترنت ووسائل الإعلام، بعكس الدساتير السابقة التي كانت تكتب في غرف مغلقة ولا يعرف الشعب عنها شيئا إلا لحظة الاستفتاء".
وحينما سألته بي بي سي عن سبب عدم استعادة دستور 1923 الآن طالما وصف بأنه عظيم، ولو مع بعض التنقيح، أجاب: "لقد استعنّا بالفعل بنصوص كثيرة منه، ولكني أريد أن أوضح أن الدستور يوصف بأنه عظيم أو سيئ بالنسبة لظروف عصره، وقد كان ذلك الدستور معبرا عن فترة ملكية ولا يصلح الاعتداد به في فترة الحكم الجمهوري".
ويخلص الدكتور بطيخ أن الدستور الذي عكف على إعداده مع زملائه من أعضاء الجمعية التأسيسية، هو "أفضل الدساتير المصرية على الإطلاق، سواء من حيث مضمونه أو من حيث ديمقراطية اختيار اللجنة التي تضعه. وأوضح أن أسوأ الدساتير المصرية من وجهة نظره هو دستور 1956 الذي أعطى أوسع الصلاحيات للرئيس".
ولكن بطيخ في المقابل لا يختلف مع غيره من الخبراء في أن هذا العدد الكبير الذي صدر من الإعلانات الدستورية وتعديلاتها منذ ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن "تمثل إسرافا وخلطا للأوراق بين الشرعية الثورية والدستورية".
الدستور الموازي
ونعود إلى الدكتور حمادة إسماعيل الذي يلفت النظر إلى رؤية أخرى للتاريخ الدستوري المصري ويقول إن كل هذه التعديلات تشير إلى أن هناك "دستورا موازيا غير مكتوب، وهذا هو الدستور الذي يتم العمل به فعلا مهما بلغت براعة النص المكتوب". ويضيف: "بالطبع، ليس هناك نص دستوري يسمح بتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد الأمور حال سقوط الرئيس، كما حدث بعيد ثورة 2011". ويقول: "هناك إذن دستور غير مكتوب يتراضى المجتمع عليه بغض النظر عن النصوص المدونة، ومرد هذا القبول يعود إلى التنشئة التي تكره الطالب على عدم مقاطعة معلمه أو تصحيح خطأ والده، وبالتالي القبول بقدر من الدكتاتورية والأبوية في السلطات العامة للدولة". ويخلص إلى القول" "الدساتير المكتوبة في مصر غالبا ما يعتبرها الحاكم منحة منه، ومن يمنح، يرى أن لديه أيضا صلاحية المنع"