TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > علبة سردين

علبة سردين

نشر في: 15 ديسمبر, 2012: 08:00 م

تفقد أغلب الفعاليات الإنسانية جدواها ومغزاها عندما تتحول إلى روتين. إذ الروتين قاتل لروح أي فعالية، خذ مثلاً على ذلك العبادات الدينية، التي يفترض بها أن تؤدي، فيما تؤدي، مهمة تحقيق التواصل الروحي بين العابد والمعبود، فهذا التواصل يموت عندما تصبح العبادة روتيناً يومياً. أو تتحول إلى فعل آلي تكراري ممل في بعض الأحيان.

نفس الموضوع ينطبق على الوظيفة والموظفين الذين يؤدون مهامهم ببرود، إذ يجب أن لا نستغرب عندما نشاهد طبيباً أو ممرضاً يهملان مريضاً بحاجة ماسة إلى المساعدة، يجب أن لا نلعنهما في سرنا، أو أن نجزم بأنهما وحشان وليسا بشرين سويين. يجب أن لا ننسى أو نتناسى أن المريض الذي يحتاج إلى المساعدة أمر روتيني بالنسبة للطبيب وللممرض، فهما في كل ساعة بمواجهة مثل هذه الحالة، والتكرار يقتل عنصر التفاعل، وهو العنصر المسؤول عن تحفيز التعاطف الإنساني.

وهذا ما يحصل أيضاً داخل العائلة، أقصد بين الزوجين، فتكرار نفس الفعاليات في البيت أمر ممل، الرتابة تُميت عنصر التشويق وتفتح الباب واسعاً أمام البرود ليتسلل إلى الحياة الزوجية. وإزاء هذه الطبيعة الإنسانية الراسخة ـ أقصد حالة الملل التي تقتل النشاط الإنساني وتجعل فعالياته بدون روح أو فاقدة للجدوى ـ نجحت المجتمعات البشرية بخلق معالجات عدة، فكل ثقافة ابتكرت من جهتها ما يتناسب وبيئتها. لكن الملاحظ أن حالات العلاج هذه تشترك جميعها بنقطة الترفيه. الترفيه الذي يكسر الملل وينقذ الإنسان من ضغوط الرتابة التي تحاصره تدريجياً. ومهما كانت الأهداف الثقافية والتربوية والفنية المترتبة على ارتياد مسارح الغناء والتمثيل ودور السينما والمراقص والمقاهي والنوادي الترفيهية، مهما كانت مهمة يبقى هدفُ كسر الرتابة وإخراج الإنسان من ضائقة الملل، هدفاً أعلى من وراء تأسيس هذه المؤسسات الترفيهية.

أما المجتمعات التي تتخذ موقفاً سلبياً من مؤسسات الترفيه فإنها تحكم على نفسها بالهلاك، وعلى أفرادها بالشلل، أي أن كادر موظفيها وعمالها وحرفييها، سيكونون أشبه شيء بالأسماك المكبوسة داخل علب سردين، أو أشبه شيء بالمسجونين في بعض السجون الشرقية الخالية من مؤسسات الترفيه. يا سادتي الأفاضل مؤسسات الترفيه بالنسبة للأمراض الاجتماعية تكتسب نفس أهمية حبوب وجع الرأس وحبوب الضغط والمهدئات بالنسبة للأمراض الجسدية. ولا فرق بين التشريعي، أو التنفيذي، الذي يريد من أفراد مجتمعه أن يؤدوا واجباتهم بشكل سليم دون أن يمنحهم حقهم بمؤسسات ترفيه مناسبة، وبين الطبيب الذي يريد لمرضاه أن يكفوا عن الصراخ دون أن يحقن أجسادهم بالأدوية المناسبة، لا فرق بينهما، فكلاهما بنفس الدرجة من البلادة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram