نظّم المقهى الثقافي بلندن أمسية شعرية للشاعر فاضل السلطاني عن ديوانه الأخير "ألوان السيدة المتغيّرة"، وقد ساهم الروائي لؤي عبد الإله بتسليط الضوء على هذه المجموعة الشعرية تحديداً، وقال في مستهل حديثه بأنه لا يريد أن يقدِّم دراسة نقدية مفصَّلة لأنه ليس ناقداً، وإنما هو ناثر يكتب القصة القصيرة والرواية. ذكر الأستاذ لؤي بأن "الديوان قد صدر قبل تسعة أشهر" حسبما يظن بينما تشير سنة الإصدار إلى أن الطبعة الأولى من الديوان قد صدرت عام 2010. ثم بنى الجملة التالية على خطأ التصور الأول حينما قال: "بأننا لم نقرأ أية دراسة عنه على الرغم من هذه المدة الزمنية من جهة وأهمية الديوان من جهة أخرى" في حين أن "الشرق الأوسط"، الصحيفة التي يعمل فيها الأستاذ لؤي قد نشرت مقالاً عن الديوان يحمل عنوان (الشعر والمجازات الجديدة: الحُب والموت في مجموعة "ألوان السيدة المتغيرة") بقلم هاشم صالح، كما نشر الروائي والناقد سعد محمد رحيم في موقع "الحوار المتمدن" دراسة نقدية حملت عنوان المجموعة نفسها، فيما نشرت ديمة الشكر مقالها النقدي الثالث عن المجموعة الشعرية ذاتها في صحيفة "الحياة" وكان بعنوان "فاضل السلطاني. . شاعر الأحزان الشخصية"، كما نشر كاتب هذه السطور مقالاً رابعاً في صحيفة "المنارة" العراقية انضوى تحت عنوان (المُخصِّبات والتعالقات النصيّة في القصيدة الحديثة . . قراءة نقدية في "ألوان السيدة المتغيّرة" لفاضل السلطاني) وثمة مقالات أُخر لا يسع المجال لذكرها جميعاً. نستخلص من المقالات الأربع التي ذكرناها تواً بأن الأستاذ لؤي لم يتابع بشكل جدي ما نشرته الصفحات الثقافية وأنَّ المعلومة التي ساقها غير دقيقة، وأن ترويجها في أمسية شعرية تعود بالضرر على الشاعر المُحتفى به. لنفترض أن الروائي لؤي عبد الإله لم يقدّم دراسة نقدية ممنهجة، وإنما مجرد خطوط عريضة لأبرز المحاور والثيمات الأساسية لتجربة فاضل السلطاني الشعرية، وقد أكدّ غير مرّة بأنه ينظر إلى هذا الديوان من زاويته الشخصية كناثر معني بكتابة الرواية على وجه التحديد. الملاحظة الأولى التي لفتت نظره هي "انتقال فاضل السلطاني في هذا الديوان من الصوت العام إلى الصوت الخاص" بخلاف دواوينه السابقة التي كانت تهيمن عليها "النبرة العامة" أو ضمير الجمع "نحن"، وقد حدّد عبد الإله هذا الصوت الخاص بثيمتين أساسيتين هيمنتا على القسم الأكبر من قصائد المجموعة وهما "المرأة" و "الموت"، وعلى رغم من هيمنة ثيمة "الموت" إلاّ أن عبد الإله رأى في المجموعة الشعرية ديواناً للحُب وأنه لا يقتصر على الحبيبة حسب، وإنما يذهب أبعد منها إلى الأم والأخت أو المرأة المعشوقة حتى من طرف واحد. إن نقطة خلافي الأساسية مع الأستاذ لؤي تكمن في أن السلطاني ينتقل كلما تقدّم به العمر، وتعمّقت تجربته الشعرية من الصوت الخاص إلى العام، وحتى ضمير المتكلم الذي يستعمله بين أوانٍ وآخر هو ليس بالضرورة "أنا" الشاعر، وإنما هو صوت البطل أو البطلة في نصه الشعري. كما تجدر الإشارة إلى أن فاضل السلطاني يدرك خطورة "الأنا المتضخمة" التي لا تقدِّم إلى النص الشعري سوى الغرور الفارغ الذي لا يلتفت إليه أحد. توقف عبد الإله عند مصطلحين شائعين لدى عالم النفس السويسري كارل يونغ وهما "الأنيما والأنيموس"، حيث تعني "الأنيما" وجود العنصر الأنثوي في لا وعي الذكر، بينما تعني "الأنيموس" وجود العنصر الذكري لدى الأنثى، وذكر بأنّ ترجمتهما هي "القرينة أو القرين"، ثم أضاف نقطة شديدة الأهمية من وجهة نظر كارل غوستاف يونغ مفادها أن الأعمال الأدبية المتميزة لا تأتي فقط بسبب موهبة الكاتب، وإنما بسبب ملامسته للصور البدئية "الآركيتابس"، وهذه الملامسة هي التي تفضي إلى خلق الشرارة ويستطيع من خلالها القارئ أن يجد نفسه في هذا العمل. وقد أورد المُحاضر بعض الأمثلة التي تعزز صحة ما يذهب إليه منها رواية "الأخوة كارامازوف" لدستويفسكي الذي طرح "عقدة أوديب" بوصفها أنموذجاً أصلياً راكساً في أعماق الرجل، وهذه الملامسة الذكية هي التي جمعته بـ "هاملت" شيكسبير، و "أوديبوس" سفوكليس. وذكر المُحاضر بأن هذه الملامسة هي التي جعلت هذه الروائع الأدبية تكهرب القارئ، وتنبّهه إلى وجود هذه الأنماط الأولى الراكسة في أعماقه. ثم توقف عند قصيدة "أمي" وقد رأى أن هذه الأم استطاعت أن تملأ المساحة المخصصة في اللاشعور أو كما أسماها "القرينة"، وحينما تحكمت الأم بهذه القرينة برزت كأرض، وماضٍ، وصلة بالموت، لكنها تدفع في الوقت نفسه باتجاه الحياة. ومن خلال هذه العلاقة الجدلية بين الجانبين استطاعت القصيدة أن تستفز القارئ، وتشعره بأنه في قلب هذه القصة، وأن هذه القصيدة تعنيه تماماً. اعتبر عبد الإله هذه القصيدة من أنجح القصائد، ليس لأن فاضل السلطاني صديقه، وإنما لكون القصيدة استطاعت أن تمس هذا الجانب الذي يجمعنا وهو موضوع الحياة والموت في آنٍ معا. تتكرر ثيمة الموت في قصيدة "سهام" التي كتبها الشاعر فاضل السلطاني بصيغة الرثاء، لكن ما ميّز هذه القصيدة عن بقية قصائد الديوان، كما يرى عبد الإله، هو أن فاضل السلطاني قد أنسنَ الموت وحاوره، وطلب منه أن يعيد أخته المتوفاة في النهار، ويسترجعها في الليل. ثم عرّج على ثنائية الليل والنهار وقال إنها فكرة متكررة في الأدب السومري، وأنها تمس الذاكرة الجمعية أيضاً، وختم الحديث عن هذا الجانب بالقول إنها واحدة من قصائد الحب الحقيقية، وليست مرثية لأخت الشاعر. القصيدة الثالثة التي استوقفت عبد الإله "سيدتي الجميلة" التي أصبحت فيها لغزاً، وعزا تميّز هذه القصيدة إلى نجاح فاضل السلطاني في البناء الدرامي لهذا النص الشعري المُلغز الذي يتوفر على جانبين إيجابي وسلبي، فالجانب الإيجابي هو قدرة الشاعر على إسقاط هذه المرأة داخل الأنيما، الأمر الذي أتاح له أن ينتقل إلى جو شفاف يمكن أن ينقل القارئ إلى عالم أكثر تسامياً مما هو فيه، وأن تتحول هذه المرأة إلى رمز أعلى مما هي عليه. الملاحظة الأخيرة التي توقف عندها عبد الإله هي المدينة، فلندن هي المساحة المشتركة التي تتحرك فيها القصيدة حتى لو كان يتكلم عن أناس آخرين موجودين في العراق. لقد امتلكت المدينة التي يتحدث عنها السلطاني مواصفات ذاكرة شعرية لها علاقة بالشعراء الآخرين، وهذا ما سمح للسلطاني بأن يتناص مع شعراء آخرين كما في قصيدة "بابل بابيلون" التي اعتبرها عبد الإله قصيدة مُدهشة وذلك لتمازجها مع قصيدة "الأرض اليباب" لـ ت.س. إليوت. أشارَ عبد الإله بأنه قرأ هذه القصيدة بترجمة عبد الواحد لؤلؤة الذي ترجمها كناقد، ولم يترجمها كشاعر، ووصف المُحاضر هذه الترجمة بأنها خطوة للأمام وبانتظار المترجم الشاعر الذي يستطيع أن يترجمها شعرياً. كما حرّض المُحاضِر الشاعر فاضل السلطاني على ترجمة هذه القصيدة لأنه استطاع أن يمسك صوتها الشعري الداخلي، وقال إن قصيدة "بابل بابيلون" استطاعت أن تتناص وتتمازج وتبني عالماً داخلياً بين بغداد ولندن تكشف عن مهارة السلطاني وقدرته على كتابة النصوص الشعرية العميقة. وفي نهاية حديث المُحاضر لؤي عبد الإله قرأ السلطاني عدداً من قصائده من بينها "صورة"، "أمي"، "ألوان السيدة"، "سيدتي الجميلة"، "العودة"، "ما أجملَ العالم في منتصف الذاكرة" و "بابل بابيلون"، ثم دار حوار بين الجمهور من جهة والمُحاضر والشاعر من جهة أخرى.
فاضل السلطانـي بين النبـرة الخاصـة والصـوت الجمعـي
نشر في: 16 ديسمبر, 2012: 08:00 م