متابعة/ المدىحملت انعام بعضٍ أكياس "الجنفاص" على كتفها، وجرّت بعضها الآخر وراءها، بعد ان ملأتها بعلب المشروبات الغازية الفارغة، وهي تجوب أرجاء ساحة من النفايات، وتحدثت كإنسانة مقهورة، قائلةً: "النفايات تقتلنا وتفتك بنا وتتآمر على إنسانيتنا وصحتنا... ولا أحد يبالي".
انعام واحدة من عشرات النساء اللواتي ساقهن الجوع والحرمان الى إحتراف هذه المهنة ضمن ما أصبح يطلق عليهم في الوقت الحاضر إسم "النبّاشة".... ففي أطراف العاصمة بغداد، حيث توجد أماكن الطمر الصحي، ثمة عالم منسي مسكون بالويلات والحزن، إذ تخرج يومياً عائلات من جبروت الفقر وبيوت المتجاوزين على أملاك الدولة في رحلة بحثٍ عن قناني المشروبات فارغة، وأجهزة كهربائية عاطلة، وبقايا نحاس ومعادن أخرى وغير ذلك، ويقوم أصحاب الورش الصناعية بتشغيلهم في جمع تلك النفايات وتحويلها إلى مواد أولية لإعادة تصنيعها ومن ثم تصديرها إلى خارج البلاد. جميع من يعملون في ساحة طمر النفايات ينظرون بإنكسار إلى العالم، فهم موجودون في مثل هذه الأماكن منذ خيوط الفجر الأولى وحتى ساعة متأخرة من الليل، بين تلك النفايات التي تختلف بأشكالها وألوانها وروائحها..أم سعد، امرأة في العقد الرابع من عمرها، متزوجة من رجل معاق، تقول: "نحن عراقيون ولسنا غرباء، نريد من يلتفت إلى حالنا.. أناشد الجهات المعنية والحكومة، فنحن لم نجد فرصة عمل مناسبة لتوفير لقمة العيش". وتؤكد زميلتها أم سجاد بأن "أغلب العاملين في أماكن طمر النفايات يجمعون طعامهم من بقايا وفضلات المأكولات التي يرمي بها الآخرون"، مشيرة إلى انها على علم بخطورة هذا الأمر، لكنها تقول؛ "ليس باليد حيلة"، بل تستعيد شجاعتها لتتساءل؛ "هل نحن من البشر؟"، لافتةً إلى أنها تبحث في الأكياس الممزقة عن رداء، فيما يفتش الأطفال عن الحلوى بين النفايات، ويحملون بقايا الخبز والطعام إلى الجياع من أفراد أسرهم، ويقول حسين رحيم الذي لم يتجاوز عمره عشرة أعوام: "ابحث عن قطع الكيك، وما يتبقى من مشروب (البيبسي كولا) بين العلب الفارغة التي ترمي بها الناس"، لافتاً إلى انه لا يستطيع شراءها، لأن عليه أن يمنح لوالدته المريضة ما يحصل عليه من جمع وبيع قناني الماء الفارغة. وراء عمل النساء والأطفال في فرز النفايات وجمعها أسباب عديدة، في مقدمها زيادة عدد العائلات التي فقدت من يعيلها في أعمال العنف المسلحة والإرهاب والتي قهرت الآلاف من أفرادها وروّعتهم وشرّدتهم وجعلتهم يعيشون دون مستوى الفقر، وتقول زهرة محسن التي غطت وجهها ببرقع أسود: "أبحث بين القمامة عما يسد رمق ابنتي المريضة وأبني الذي فقد سمعه بسبب عدم استطاعتي توفير مبالغ كافية لعلاجه، أعمل منذ الصباح الباكر حتى المساء لجمع قناني المياه الفارغة والعلب المعدنية مقابل أجر يومي لا يتعدى (7000) ألف دينار عراقي"، مناشدة مجلس النواب النظر في طبيعة حياتهم التي يعيشونها. وفي الأرجاء ثمة نساء متشحات بالسواد... وتلتفت عجوز طاعنة في السن، قائلةً؛ "نحن نعيش في الضيم، وكل شيء هنا ممكن ومحتمل ومتوقع، ولكن من أين لهم أن يعرفوا ما نمر به من ظروف صعبة، ما دام لا يستمع أحد لصرخاتنا ونحن نعيش في الحضيض؟؟"، متسائلةً؛ "لماذا لا يسمع أصواتنا المسؤولون، ولا يلتفت إلى حالنا أحد؟".شباب وصبية يقفون وراء بعضهم، وكل منهم يحمل كيساً من "الجنفاص" في يمينه، ويدفع بزميله الذي يقف بالقرب منه في يساره، ويبدأ بلصق التهمة تلو الأخرى على المسؤولين والمنظمات الإنسانية ودائرة الرعاية الاجتماعية، فالمواطن شامل عاصي بكى بألم وحسرة عندما تحدّث وهو يحاول اخفاء ملامح وجهه، قائلاً:"منذ ثمانية أعوام وأنا أعمل في (نبش النفايات)، وكلما قدمت أوراقي للحصول على وظيفة أُقابل بالرفض.. ما ذنب أطفالي جعفر وعقيل، لا أستطيع توفير ما يريدون، ما ذنبهما؟ فهما مصابان بمرض الثلاسيميا، بعدما قطعت دائرة الرعاية الاجتماعية المنحة الشهرية التي كانت تعينني في تغطية بعض احتياجاتهم". ويقول أبو محمد، وهو سائق مركبة ان سيارات محملة بالنفايات تأتي من مختلف الدوائر والمؤسسات الحكومية للتخلص منها هنا في أماكن الطمر الصحي، فيقوم هؤلاء "النبّاشة"، من أطفال ونساء وشباب بالتزاحم والتدافع بغية الحصول على ما يمكن فرزه، مشيراً إلى انهم يعتبرون تلك الحمولة من النفايات غنيمة، وعليهم ألا يمنحوا غيرهم فرصة للحصول عليها! ويؤكد أبو محمد ان حوادث دهس قد تحصل أحياناً بسبب تجمع أعداد من "النبّاشة" حول السيارات المحملة بالنفايات، وبخاصة الأطفال وكبار السن منهم، لافتاً الى ان ترى امرأة تحضر معها أطفالها وتجلس في زاوية بين النفايات لترضع طفلها الصغير، وبعد ذلك تركنه في تلك الزاوية لتقوم باستكمال عملها في جمع النفايات. كامل راضي، أحد العاملين في ورشة لإذابة المخلفات المعدنية يقول ان عمل الورشة يعتمد بالدرجة الأساس على ما يحضره "النباشة" من تلك المخلفات التي يجمعونها، سواء من أماكن الطمر الصحي، أو من خلال البحث عنها "كدوّارة" في
مهمشون في بغداد يفتشون عن تفاصيل الحياة بين اكوام الازبال
نشر في: 14 إبريل, 2011: 06:51 م