عبد الزهرة زكيلم أكن في البصرة حين قرأ الصديق الناقد صادق ناصر الصكر ورقته النقدية عن (طغراء النور والماء) كتابي الشعري الأخير..كنت مدعوا إلى ملتقى قصيدة النثـر الذي قرئت فيه الورقة، وكنت قد قدمت وجهة نظر بشأن ما أتمنى أن يكون عليه الملتقى حين زارني قبل ثلاثة أشهر
في مقر عملي ببغداد الصديقان الشاعران كريم جخيور وعبد السادة البصري اللذان تحمسا لجوانب منها، لكن وجودي خارج البلاد حين انعقاد الملتقى حال دون حضوري فعالياته التي اثنى عليها كثيرون من الزملاء ممن أثق بآرائهم..لكن أصدقاء كثيرين اتصلوا بي وتحدثوا عن ورقة الصديق الصكر، وقدموا تصورات متباينة عنها، الأمر الذي حدا بي إلى الاتصال بالناقد الذي وفر لي، مشكوراً، نسخة من الورقة قبل نشرها في جريدة محلية.وجدت في ورقة الصكر رأيا واقعيا، وقلت أنه رأي واقعي بمعنى أنه رأي موجود في واقع النقد والقراءة، وهو يمثل اتجاها كان يريد من الأدب، وبالتحديد الشعر، انشغالا بغرض محدد، يكون الشعر ملزما بالتعبير عنه وعدم تجاوزه إلى ما سواه..وهو اتجاه تجد دعاته في جانبي اليمين واليسار، حيث ثمة من يجد أن لا علاقة إطلاقا بين الشعر وما يحدث من وقائع سياسية واجتماعية وتاريخية، قدر انشغاله بعمل جمالي ولغوي وموسيقي.. في مقابل دعوات أخرى تلزم الشعر بدور اجتماعي سياسي تاريخي، يكون معه معبرا عن الوقائع ومدونا لها وحافظا، بهذا الشكل أو ذاك، لصداها في ذات الشاعر.كلا الاتجاهين هما نتاج لموقف إيديولوجي مسبق، يحدد للأدب والشعر غرضه و(واجبه) ويفرض عليه دورا وأداء يكون بهما شعرا، ولن يكون بتجاوزهما إلا محض تقرير (من وجهة نظر معينة) أو مجرد عبث لا طائل منه (من وجهة نظر معينة مقابلة).لكن الشعر، وعلى مدار التاريخ، قدم واستمر يقدم نماذج مبهرة وعظيمة من شعر التزم بالتعبير عن الوقائع ومن شعر آخر انصرف عنها، عن الوقائع، وانشغل بما هو متسام عليها وعلى الأحداث..هكذا نقبل اليوم على قراءة المتنبي من جهة وأبي نواس من جهة أخرى..كما يقرأ الغرب إيلوار من جهة ومالارميه من جهة أخرى، فيما يقرأ الروس مايكوفسكي في مقابل اخماتوفا..وهكذا تجد متقابلين في كل الثقافات، وليس في ثقافتنا حصرا.من الذي يقرر أن هذا شعر وأن ما سواه ليس بشعر؟ هذه مشكلة ليست بالتبسيط الذي نتساءل به الآن..لقد أُنفق جانب كبير من تاريخ الجهد النقدي ومعه تاريخ الأدب ونظريات الشعر والجمال من دون الوصول إلى نتيجة محددة، برغم كل الجهود الفكرية الجبارة والمتواضعة التي استخدمت في سبيل هذا الغرض، وبرغم أن نتائج مهمة جرى استحصالها فعلا في غمرة البحث والتفكير في هذا المجال..لكن كل تلك الجهود وكل النتائج العظيمة والسطحية كانت دائما عرضةً للتعديل والتغيير، لتتقدم نظريات وتتأخر أخرى باختلاف الأزمان والظروف والتجارب المهيمنة..وكان المؤثر في كل هذه النتائج والجهود والتعديلات والتغييرات هو الشعر، الشعر وحده بما يقدم وبما يجترح من تجارب وأعمال تستجد وتظهر وترسخ لتفرض على الناقد والمؤرخ الأدبي والمنظر الجمالي تعديلاته وتغييراته.هذا الدور الذي يعدل، بموجبه، الناقد والمؤرخ والمنظر أفكاره ونظرياته ونتائجه تبعا لتغيرات وتطورات الشعر هو بالتأكيد دور ايجابي معرفي ( لا إيديولوجي)، دور يراقب المختبر الشعري فيستنتج، بخلاف ذلك الدور الإيديولوجي الذي يأتي إلى المختبر بنتائج مقررة وينتظر من عمل الشعر أن يجري على وفقها، وحين لا تتطابق نتائج الشعر مع محددات الدور الإيديولوجي لا يعود الشعر شعرا.لم يحفظ لنا تاريخ الشعر الجاد أن شاعراً كان يكتب في ضوء ما تفرضه عليه النظريات وأفكار النقاد ومتطلباتهم..نعم كان هناك شعراء يكتبون بما ينسجم وبما قد يعضد بعض تلك النظريات والأفكار، لكن هذا يحدث في ضوء ما تفرضه قناعات الشاعر ووجدانه وطبيعة اهتماماته وفكره الشعري..ويحدث هذا في الجوانب الفنية، كما يحدث في أغراض الشعر وموضوعاته.وفي كل الأحوال سيكون الشاعر، وهو يواجه موقفين نقديين أو نظريين متشددين وإيديولوجيين متعاكسين، مطرودا من قبيلة إيديولوجية معينة ومقبولا من أخرى تعارضها.وإجرائيا، يقدم لنا التاريخ الكثير من الشواهد التي يقصى فيها شاعر ما في بيئة متشددة تتعصب لصورة ترى عليها الشاعر ولا تقبل بسواها، نتذكر هنا شاعر الحب السوفيتي الذي قدم للطبع مجموعته التي أوعز ستالين بطبع نسختين منها، للشاعر ولحبيبته. لقد كان ستالين مؤمنا بضرورة التزام الشاعر بالتعبير عن مشكلات شعبه وتطلعاته..وكان يؤمن حتى بصيغ مقررة سلفا لمثل هذا التعبير.وسيكون في المقابل من ستالين وبالتزامن معه، وفي بيئة أخرى منفتحة مثل البيئة السياسية والثقافية الأوروبية قبول بتعايش شعراء مثل فاليري ومالارميه وسان جون بيرس واراغون وريتسوس ينطلق كل منهم من حاضنة ثقافية وفكرية مختلفة ويعبر ويكتب بطريقة وبأغراض متباينة من دون أن يشكل ذلك عزلا و إقصاء لهذا أو قبولا بذاك.وإذا عدت إلى مثال الشاعر الفرنسي بول ايلوار، وهو من مؤسسي السريالية ومن أفضل من أنتج شعرا فيها، فسنقف عنده على مثال الشاعر الذي كان حرا من الموقف الشعري المسبق، وليس الموقف الفكري والنقدي والنظري حصرا، وذلك بما أنتجه من شعر في الحرب العالمية الثان
تعقيباً على ورقةالناقد صادق الصكر في ملتقى قصيدةالنثر.الشعر يبتكر.والنقد يعدل قوانينه
نشر في: 16 إبريل, 2011: 06:15 م