اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > حين تعلن "أوركسترا فيلادلفيا" إفلاسها: الثقافة الرصينة فـي محنتها الكونية

حين تعلن "أوركسترا فيلادلفيا" إفلاسها: الثقافة الرصينة فـي محنتها الكونية

نشر في: 22 إبريل, 2011: 05:03 م

علي عبد الأمير عجامليس الأمر مجرد أزمة اقتصادية وتداعياتها، بل هو أعمق من كذلك لجهة ان الثقافة الرصينة في عصرنا تعيش محنة كونية بامتياز، فهاهي واحدة من أعرق علامات الموسيقى الرصينة في الولايات المتحدة تعلن إفلاسها، ولأسباب كثيرة جداً، منها انخفاض عائدات التذاكر والتبرعات بالإضافة إلى التكاليف التشغيلية ومستحقات تقاعد العاملين، على رغم انخفاض اجورهم  فضلا عن العدد القليل النسبي لهم.
انه خبر سيّئ بالتأكيد، لكن ما هو أسوأ من افلاس أوركسترا فيلادلفيا الشهيرة التي تأسست في عام 1900، هو مؤشر انحسار الذائقة الجماهيرية، فبدون جمهور مواظب على حفلات الاوركسترا، وبدون اقتناء الاسطوانات التي توثق حفلاتها تارة، او تعكس القدرات التأليفية والعزفية لأعضائها تارة أخرى، لا يمكن لمؤسسة ثقافية رفيعة كالاوركسترا الأميركية الشهيرة إلاّ ان تغلق ابوابها، حتى وان استمرت بخجل بعض محاولات إبقائها على قيد النغم الجميل عبر تبرعات محبي الموسيقى الرفيعة او دعم بعض المؤسسات التجارية.الامر اذن يتعلق بتحولات الذائقة، والتغييرات الجوهرية التي طالت صورة الموسيقى وتأثيرها في ثقافة الجمهور العريض، الذي بات يختار ما يناسب ذائقته وتطلعاته دون التوقف عند رموز كبيرة ومؤثرة، حتى ولو كانت بحجم التأثير الذي يعنيه تاريخ من النغم الإنساني الرفيع قدمته لأكثر من قرن اوركسترا فيلادلفيا السيمفونية. الجمهور اليوم يقتني نغمه الخاص وموسيقاه الشخصية، وليس سرا ان مغنية مثيرة للجدل موسيقى واداء وظهورا صاخبا مثل "ليدي غاغا"، تحقق إقبالاً ومبيعات اكبر من مما تحققه مثالا مبيعات اسطوانات بيتهوفن، ليس في الولايات المتحدة وحسب بل في مناطق عدة من عالمنا المعاصر. هذا لا يعني مؤشر إساءة الى ثقافة من يقبل على انغام المغنية الاميركية الغريبة الاطوار، ولا الى المغنية ذاتها، بل انه مؤشر تغييرات كبرى في الذائقة وصورة الثقافة ذاتها، فالذائقة الانسانية اليوم تبحث عمّا يلائم حالاتها الشعورية والفكرية، اكثر من عنايتها بالاتصال مع الرموز العميقة في الثقافة الانسانية، ومنها رموز الموسيقى الرصينة التي تشكل النسيج الحي في عمل اوركسترا فيلادلفيا السيمفوني، انها ذائقة مأزومة كما عصرها، مأزومة باسئلة جارحة وحادة من نوع تأمين عناصر الوجود الإنساني ومتطلبات العيش، فضلا عن اختبار قيم الوجود الانساني من الحرية الى الاستقرار مرورا بالتحصيل العلمي وتحقيق الخبرات العلمية، وأسئلة ترقى الى الأزمات كهذه، تدفع بالمتلقي الى اختيار نتاج روحي وثقافي قريب من ايقاع حياته، يشبهها ويحاكيها، وهو بالتأكيد لفرط اتصاله بالواقع اليومي لن يكون من نوع عميق ومعني بأسئلة الوجود الإنساني كما في الثقافة الموسيقية الرصينة.افلاس اوركسترا فيلادلفيا السيمفوني محنة للثقافة الرصينة في العالم اليوم، ليست بعيدة عن محنة اكبر مركز ثقافي في العالم، هو "مركز كنيدي" في العاصمة الأميركية واشنطن، حين صرّح مديره اواخر العام الماضي بان مركزه لن يصبح بامكانها تقديم المزيد من الأعمال مع استمرار أزمته المالية.ولو قارنا بين قيمة المديونية التي كانت سببا في إغلاق اوركسترا فيلادلفيا الشهيرة (نحو 15 مليون دولار) وبين ارباح عملاق النفط الاميركي (اكسون موبيل) في العام الماضي فقط (نحو 40 مليار دولار) لاكتشفنا وجها آخر من وجوه الأزمة، فقيم الربح المتصاعدة في عصرنا تشكل في صعودها "تسونامي" مرعبا لا يبقي ولايذر من آثار الثقافة الإنسانية وتفاصيلاته الروحية، فتلك القيم فضلا عن تعارضها الأساسي مع قيم الحرية الفردية الإنسانية التي تعتني بها الثقافة والافكار والفنون، انما هي ترسخ ازمات يومية حادة وصعوبات انسانية تدفع بالجمهور الى الالتفات الى اي مادة ثقافية تشبه ازماتها، وهي بالتأكيد ستكون من نسيج الفنون والآداب السائدة مثل اسطوانات الغناء والموسيقى الاستهلاكية.ان نسبة صغيرة من ارباح الشركات الكبرى في العالم بإمكانها انعاش الثقافة الإنسانية في أرجاء المعمورة كافة ، ولو راجعنا جهد احد عبقريي عصرنا وأحد رموزه الإنسانية النظيفة مثل ابي تقنيات المعرفة المعاصرة بيل غيتس، وما فعله في بلد مثل الهند طوال نحو عقد كامل، حين تبرع لمرات بعشرة مليارات دولار في مجالات تحسين الصحة والمعرفة والتعليم والمشاريع الثقافية، لوجدنا كيف أثمرت أمواله تلك في إنتاج جيل جديد من العلماء الشبان وبناء بيئات نظيفة خالية من العاهات والآلام.ومع تراجع المثال الذي يقدمه غيتس حيال امثلة لقيم الربح التجاري المخيفة في عصرنا، فإننا لن نستغرب افلاس مؤسسات ثقافية كبرى لطالما ارتبطت بالذائقة الرفيعة وبالثقافة الإنسانية المحرضة على قيم الجمال والحق والعدل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram