الشعر، بدءاً، هامش المتن، في بعض تعريفاته، وليس للشعر تعريف، كما ليس له شكل متفق عليه، وقد يكون متن الهامش.
يخترع الشاعر شعره من مواد خام، قد تكون فخاراً أو نصباً، أو فكرة بكراً يجري عليها الكثير من التحوير والحذف والإضافة كي تخرج القصيدة أو لا تخرج.
فإن يتصدى شاعر، خصوصاً إذا كان عراقياً، لرسم بروفايل للريح أو منظر جانبي للمطر، مثل جواد الحطاب فإن مهمته عسيرة.
جواد الحطاب تورط مرتين: الأولى، في استلهام "نصب الحرية" لجواد سليم مستتبعاً خطى جده الراحل بلند الحيدري، الذي لم يفلح كثيراً فأنحى باللائمة على النحت الذي لا يتحلل إلى كلمات.. وفي الثانية، استلهم التاريخ ليكشف حجب التماثيل العراقية متوغلاً مئات السنين قبل الميلاد.. ويا لها من مهمة شاقة!
التاريخ وقد كتب شعراً لا يقوى على مطاولة الأكذوبة الرسمية التي كتبها المنتصرون، ولا يرمم وطناً كسره التاريخ قبل الجغرافيا، وهو ليس إلا محاولة لتفسير الألم.. المنتصر أكثر حذقاً من المهزوم.
العنوان مغرٍ ويستبطن صورة لغوية مثيرة للاهتمام: أن يرسم شاعر بروفايل للريح وصورة جانبية للمطر فهو اشتغال على المنظور، أولاً، واختبار لقدرة العنوان على تجريد كتاب كامل.
يركض الحطاب بين أبواب بغداد والأبواب التي اخترعها من "باب الآه" إلى جملة الأبواب المغلقة لبغداد، والشاعر مخلوق ذو حساسية خاصة إزاء الأبواب لأنه يضيق ذرعاً بها، خصوصاً الأبواب المغلقة، فالشاعر قرين الأفق والمسافات التي لا تحد.
باللغة الشعرية المستندة إلى تاريخها الخاص يخطو الحطاب على حجارة ساخنة هي متبقيات سومر وبابل وأكد وقد تبرد قليلاً عندما تتحول الصورة من رقيم طيني إلى مقتل ملك عراقي معاصر، أو انقلاب عسكري أكثر معاصرة في قصيدة لا تتردد من أن تكون سوريالية: "رأيتهم يموهون بالذهب قبضات أسئلتهم، ويقدمون لك الأجوبة في بريد مساء السبت".
من هم هؤلاء؟
هو أحد أسئلة القصيدة.
القصيدة في حد ذاتها سؤال.. القصيدة بلا سؤال محاضرة جافة حتى لو كانت عن المطر.
أتابع الحطاب منذ زمن بعيد فوجدته في هذه المجموعة أكثر مغامرة، والمغامرة التي يبديها أكثر الفرسان حكمة غير مضمونة العواقب، فكيف إذا كان الفارس شاعراً؟
لحظة الظفر، في حياة الفرسان، لا تقاس بعدد الطعنات والجراح التي يحملها جسد الفارس، إنما تقاس باللحظة الأخيرة للمعركة، والشعر حرب، وكل قصيدة معركة، سواء مع الذات أو الآخر.
يتهم الحطاب ملائكته بأنهم/ بأنها ملوثة بالميكروبات، فما هو حال الشياطين، إذن؟
هو هروب أقصى نحو التحريض ضد مسلمات المفاهيم، وهذا يسجل له:
"حبة دمع واحدة كافية لتعقيم الملائكة".
الحطاب، كعراقي، يحمل وطنه وزراً على عاتقه ويشيع إلى مثواه ما بعد الأخير، فقد شيعنا وطننا مراراً، وليس للشاعر سوى أن يجمع حشداً من المشيعين، من دون أن يذكر هذا، فالحشد مستبطن غير مصرح به:
"كل يحمل نعشاً ويناديه وطني".
التاريخ شعراً، وإن حضرت منحوتات جواد سليم ولم تحضر متعلقاتها الرمزية والتشكيلية في المجموعة، مخترم بالأوجاع المستنفدة، والحرب حاضرة.. الحرب التي ألقت أوزارها ولم تلقها، فالشعر زمان بلا زمان ومكان بلا مكان، وإن تذكر الحرب تستولد مترادفاتها: القتلى:
"ما فائدة النياشين على ملابس القتلى؟".
أخيراً، أرى أن الحطاب كتب نصاً مفتوحاً طويلاً، على دفعات، مشاهد وتكوينات وبؤر توتر وكتل تشكيلية.. أو لم يضع عنواناً تشكيلياً وتصويرياً لكتابه: "بروفايل للريح.. رسم جانبي للمطر"؟
نص مفتوح، لا ينتقص منه أن يكون نثرياً (لا أعني قصيدة النثر) بل ما يستبطنه النثر من شهادة وتواريخ وإحالات حتى لو كان على هامش الشعر، وأحياناً في البؤرة الشعرية للتاريخ.
الحطّاب يرسم بروفايل الريح
[post-views]
نشر في: 17 ديسمبر, 2012: 08:00 م