سلوى الجراحلندنفي عام 2005 نشرت أولى رواياتي"الفصل الخامس"التي تدور حول حياة امرأة تعمل في إذاعة عربية في لندن، والاستنتاج الذي لابد من أن يخرج به القارئ هي أن المرأة هي سلوى جراح والإذاعة هي البي بي سي. المرأة هي انا بقدر تعلق الأمر بالعمل لكن في حياتها قصص لم اعشها.
والعمل مادة جيدة لكتابة رواية، فالحكايات فيه كثيرة ومتنوعة لعل أهمها الناس الذين يتيح لك العمل معرفتهم وأحياناً مصادقتهم وربما التعلق بهم. في روايتي تلك تحدثت عن بعض هؤلاء لكني أسهبت في الحديث عن واحدة، زميلة عزيزة أعتبرها أستاذتي في العمل الإذاعي، وفهم الحياة اللندنية بكل ما فيها، والخروج من بدائية التفكير إلى النضج، إنها الإعلامية المعروفة أولجا جويدة رحمها الله. أولجا، التي قد يوحي اسمها بأن لها علاقة بروسيا، لا علاقة لها بالروس من قريب أو بعيد فهي من أسرة جويدة من البصرة، والدها سلمان جويدة وعمها عبد المسيح جويدة الذي كان يمتلك محلاً شهيراً لبيع السيارات في شارع السعدون ببغداد. هي من ام وأب عراقيين، وعاشت في البصرة طفولتها وشبابها. كم حكت لي عن السهرات في "مارجيل" على شط العرب، وكيف كانت البصرة في الخمسينيات حين كان الذهاب الى السينما يتطلب ارتداء ملابس المساء والسهرة. أولجا تزوجت الشاعر الايرلندي ديزموند أوغريدي، وأنجبت منه أبنة واحدة أسمها ديدرا. وكانت تعرف في أوراقها الرسمية باسم اولجا أوجريدي لكنها رغم غرابة الأسماء كانت سيدة عراقية من البصرة الجميلة. حين التقيت بها أول مرة حدث بيننا ما يسمونه كيمياء، أحببنا بعضنا. كنت أنا قادمة إلى لندن من بغداد، خجولة محدودة التجربة رغم أني كنت متزوجة وفي الثلاثين من عمري ولدي ابن في السادسة. بعد أيام من تعارفنا مات ألفس برسلي. قالت: " لم لا تكتبين لي شيئاً عن ألفيس وٍسأقدمه في برنامجي "نصف ساعة مع أولجا جويدة." كتبت. قارنت بين الحزن في الغرب على ألفيس، الملك، والحزن في الشرق على العندليب عبد الحليم حافظ. أعجبها ما كتبت. دارت تقول للزملاء: "هذه المذيعة العراقية رائعة." توطدت الصداقة بيننا سريعاً، صرنا نقول لبعض كل ما يدور في ذهنينا. دار الحديث في الفن والأدب. كانت قارئة نهمة تبحث عن كل ما هو مقروء وكل ما لم يقرأه الآخرون، استهواها كتاب أمريكا الجنوبية، عشقت ماركيز، بحثت في الأدب الياباني والصيني بعد ان دارت على آداب أوروبا وأمريكا. كانت تحب أن تقرأ وتشاهد ما يعرض في مهرجان لندن السينمائي من أفلام غير تجارية، وتستمع الى موسيقى الحجر. قالت لي مرة: "أجمل الموسيقى هي الموسيقى الصرفة. جون سباستيان باخ أبو الموسيقيين كلهم، أسمعي باخ وافهميه وستفهمين الموسيقى الكلاسيكية." كانت تقول نحن العرب لا نرضى بالموسيقى بلا كلمات مع أن تاريخ الموسيقى في الأندلس كان فيه الكثير من الموسيقى الصرفة. حدثتني عن الموسيقار العراقي الشهير سلمان شكر الذي حقق وعزف العديد من المقطوعات الموسيقية الأندلسية. في بداية تعارفنا أهدتني شريطاً لموسيقى "كارمينا بورانا" لكارل أورف. كان معها معلومات عن الكلمات التي كتبها قساوسة عن الحب الدنيوي في لحظة عبث ولحنها كارل أورف. كلمات عن تجدد الحياة، عن الحب، عن كل ما هو محرم على رجال الكنيسة، عثروا عليها في أحد الأديرة بعد قرون من موت كتابها. كانت تقول: "يجب ان لا يكون هناك قيود على الفن والأدب وكل أشكال الابداع، كل المبدعين عبر العصور كسروا القيود، ولو لم يفعلوا لما أبدعوا ولما اتوا بالجديد المبتكر. دالي وبيكاسو وبريخت أمثلة جيدة.على ذلك." وكثيراً ما تضاحكت من احتكار بعض "المثقفين" للمعرفة وكانها حكر عليهم لا يجوز ان يمسه أحد. حين اختلفت مرة مع أحدهم حول قصيدة تي اس إليوت الشهيرة "الأرض اليباب أو الخراب" حاججته انها تعرف أستاذه إزرا باوند الذي أهدى له اليوت قصيدته، وان باوند نفسه شرح لها ما هو غامض من معاني القصيدة الشهيرة. ثم حكت لي في إحدى الأماسي التي جمعتنا كيف كان عزرا باوند يجلس في مطبخ شقتها في روما قرب النافذة المطلة على نهر التيبر يكتب قصائده. همست لي يومها: "كثيرون يظنون أن باوند يهودي وينسون أنه كاد ان يحاكم في أمريكا بتهمة مساندة النازية واتهموه انه صديق للدوشي." كانت تزيح خصلات شعرها الأسود الفاحم الذي أصرت على سواده مع تقدمها بالعمر وتقول: "الثقافة ملك لمن يفهمها وليست حكراً على أحد." زميلتي وصديقتي وأستاذتي أولجا جويدة علمتني الكثير وأهم ما علمتني ان لا أخشى قول الحق ولا سماعه. كانت تكبرني بنحو عشرين عاماً لكنها كانت تواكب كل أفكاري وترقب تطوري. جاءت مرة بعد تقاعدها لتسجل مادة لأحد البرامج ك
صداقة الإبداع.. شط العرب والتيبر والتيمز
نشر في: 29 إبريل, 2011: 05:10 م