قبل عامين أجريت حواراً مع الشاعر الراحل محمد علي الخفاجي.. هذا الحوار الذي اجري في مدينة كربلاء بعد أن عاد إليها للظروف التي مرت بها بغداد التي كانت تعصف فيها الانفجارات والاقتتال الطائفي، ولأنه شاعر كان يبكيه مرأى انفجار ومشهد طفل، فقد جاء إلى المدينة ليحرك فيها الوسط الثقافي بكل ما يحمل الخفاجي من قوة حضور. وفي ذلك العام تعمقت علاقتي به وكان يشكو آلاما في كليتيه وكان يكابر ويقول لي علينا ألا نستسلم للمرض.. قبل عامين كان هذا الحوار الذي لم ينشر في جريدة بغدادية كان حول تجربته وعن إبداعه في المسرح الشعري.. وهذا نص الحوار
له صوت موسيقي حين يلقي القصيدة، ولقصيدته عمق المعنى حين يسطرها على الورق فتبدو لوحة درامية لا تخلو من عنصر التشويق وله شعرية في الكتابة المسرحية..يغوص في المكان منطلقا من حاضره نحو عمقه التاريخي لأنه يجتهد في صنع المحلية ليبني مستقبلا من كلمات.. له إمكانية المشاطرة مع الإبداع فيجوز حضوره في المهرجانات كعلامة ودعامة الشعر العراقي.. له أناقة المحتفى بعمره ليبقى في شبابه الدائم وله قدمان تدوران في الطرقات بحثاً عن صيد فكرة لقصيدة قادمة أو مسرحية وربما أوبرا شعرية.
محمد علي الخفاجي المولود في مدينة كربلاء، وتخرج من مدارسها الابتدائية والمتوسطة والثانوية والحاصل على شهادة البكالوريوس من قسم اللغة العربية بكلية التربية جامعة كربلاء عام 1966.. كتب أول قصيدة أو محاولة قصيدة وهو في الصف الثالث الابتدائي إلا أن القصيدة التي نشرت له على جدارية مدرسته وهو الصف الخامس الابتدائي كان لها الوقع الخاص لزراعة بذرة الشعر في دواخله ليرتقي المنصة وهو في الصف الثاني المتوسط في حفل عام أقيم عام 1956، وتذاع له أول قصيدة من إذاعة بغداد وهو في السنة الثانية من دراسته الجامعية عام 1963، ليتوج شجرته المثمرة التي زرعها بطبع أول مجموعة شعرية حملت عنوان (شباب وسراب) وهو طالب في السنة الثالثة من دراسته الجامعية عام 1964 وقدمها الدكتور عناد غزوان.. تلك الخطوات الرصينة لم تخلُ من انعطافة زمنها الذي كان يمور بالشعر والشعراء فالتقى بالشاعرة العراقية الكبيرة الراحلة نازك الملائكة فكانت أستاذته لأعوام 61 و 62 و63 لتمنحه رعايتها الجادة طيلة تلك السنوات. فيما كان أستاذه عناد غزوان الذي ظل يرافقه طيلة حياته، حيث كتب له مقدمات أربعة دواوين شعرية من دواوينه.
ليستمر الخفاجي في إنتاجه المتنوع الذي أضحى صوتاً خاصاً داخل أصوات الشعر العراقي.
وقفنا معه لنحاوره عن الشعر والواقع والمكان
* ما الذي جاء بك إلى الشعر.. ثم المسرح؟
- الحلم، والقلق إزاء الأشياء والظواهر، طلب الحرية للسان، الانشقاق على الذات، التضاد مع الكتابة الدارجة، وما كنتُ أتوخاه من فعل الكتابة، كل ذلك وغيره منحني شروعاً في نمو الروح وانطلاقة والحلم ولهذا جئتُ إلى الشعر فكان الشعر هو الطرف النقي لإقامة كل تلك التوازنات، ومن بعده المسرح الشعري، فالعلاقة بين الشعر والمسرح ليست طارئة وإنما هي أزلية ومتأصلة.
* ما بين الشعر والمسرح تاريخ من الإبداع أيهما الأقرب إلى الخفاجي؟
- الشعر، الشعر المسرحي، المسح الشعري، كلها مرتبطة بالوعي الشعري للعالم وليس هناك من جدار صيني بين جنس معرفي وجنس آخر، وإنما تتمايز الأجناس في ما بينها بالصفة الغالبة، وبدرجة الحساسية التي يقتضيها التعبير والموقف الملح، إن ما يميز شعرية الخشبة عن شعرية المنصة هو أن الأولى تتمتع بقدرة كاملة في استخدام الحركة المباشرة أمام الرؤية دون خيانة الكلمات، ومنذ أن عرفت الدراما إغريقيا بصراعاتها وتناقضاتها واحتمالاتها ومنذ أن عرف أيسيخلوس وسوفيكلس ويوربيدس وارستوفانتيس كانت الدراما شعرية واستمرت هكذا دون أن تخلع عنها ثوب الشعر، بل ظلت الشعرية فيها هي الوسيط الناقل للإنزياحات والجماليات وظلت قدرة الشعر الإحالية وعلى مر القرون مستمرة في تقديم متعة التطهير (تراجيديا أو كوميديا) في محاثية مستمرة للصراع الدرامي لجمهور المسرح إلى أن تدنى الكلام فهبط إلى مستوى اللغة حين استبدل الشعر بالنثر في حدود القرن السابع عشر.
* في كتاباتك إن كانت شعراً أو مسرحاً ، هل يكون المكان هو المحرك لقصدية المغزى المراد الوصول إليه ، أم هو الهم الإنساني العام؟
- منذ شيوع ظاهرة الوقوف على الأطلال في الشعر العربي ، وتذكر الحبيب فيها، والمكان الحيز الجميل من الذكرى، فليس من حدث مر على الواقع كان عائماً أو معلقاً في فراغ، وحين يريد الشاعر تقديم صورة شعرية ما فإنه بهذا إنما يقدم ظلاً - ولو شاحباً - للمكان، بل ما من شاعر يريد أن يشق طريقه إلى العالمية إلا وأطل عليها عبر ملامحه المحليّة وأحد هذه الملامح هو المكان. أن بعض الذين يعجزون عن تقديم أشعارهم بملامحها الوطنية إنما هم يعجزون عن تقديم الصورة التي تكتسي بظلال المكان، وبهذا فهم يهربون - مضطرين - إلى إيهامنا بدلاً منها بالزخرفة فيحيطون بذلك تجاربهم بالعزلة، والعزلة نفي للمكان، ولهذا امتلأ شعري بالمكان ودلالاته (النخلة، والبساتين، والفرات، والضريح، وطرق التراب، وبيوت الأهل وأبنية الحجرات، والسطوح الواطئة، ومواقد الدخان، وأساليب العيش) حين بدا المكان حاضنة كل شيء بما فيها الهم الإنساني العام.
* مسرحية (ثانية يجيء الحسين) هل هي قريبة لمسرحية عبد الرزاق عبد الواحد، أم هي محاولة لقراءة الحسين برؤية كربلائية تختلف حتى عن المسرح المصري الذي تناول الحسين؟
- قبل أن أكتب مسرحيتي الشعرية الأولى (ثانية يجيء الحسين) سنة 1967 والحائزة على الجائزة الأولى للمسرح العراقي والجزائري لم يكن لأحد من كتاب العربية قد سبقني إلى الكتابة عن الحسين في الدراما الشعرية الحديثة.. لا الشرقاوي الذي اصدر مسرحيته سنة 1968 أو 1969 ولا محمد العفيفي الذي اصدر مسرحية (هكذا تكلّم الحسين) في السبعينيات، أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فقد أصدر مسرحيته اليتيمة (الحر الرياحي) في الثمانينيات ولذا فإن مثل هذه الأسئلة ينبغي أن تطرح على الشاعر عبد الرزاق لأنه هو الذي كتب مسرحيته بعدي بأكثر من عقد من السنوات.
لقد تمثلت في مسرحيتي (ثانية يجيء الحسين) قراءتي الخاصة للماضي وبرؤية معاصرة لإيجاد مداخل ورموز ودلالات خاصة به بعد أن حاولت نقل روح الموروث واستعادة التراث لا إعادته . فكان الاختلاف بينها وبين الأخريات واضحاً .
* شاركت في العديد من المهرجانات العراقية والعربية..
أولاً: كيف ترى المهرجانات العراقية؟
ثانياً: ما هو الحضور العراقي في المهرجانات العربية ؟
- فيما عدا حضوري أنا واثنين من الشعراء في مهرجان الجزائر بمناسبة اختيار الجزائر عاصمة الثقافة العربية سنة 2007 في آب الماضي فأنه لا حضور عراقي في المهرجانات العربية الشعرية خاصة بعد تغيير النظام ، لأن اتحاد الأدباء العراقيين مجمّد من قبل الاتحاد العام للأدباء العرب حالياً وبقرار خاص أما المهرجانات العراقية اليوم فهي لا تزيد على كونها إسقاط لفرض والمثقفون مهمشون ومحبطون .
* لك مخطوطة أوبرا بعنوان (أوبرا سنمار)، عن ماذا تتحدث هذه الأوبرا؟ وهل كتابتها هي الأصعب في فن الإبداع؟
- هذا مشغل جديد لم يجربه شاعر أو كاتب عربي قبلي فليس (أوبرا عايدة) التي كتبها (جويسبي فردي) رغم إن أحداثها قد وقعت في مصر ، ومنذ سنة 1969 السنة التي استمعت فيها ولأول مرة إلى أعمال أوبرالية مسجلة على أشرطة كاسيت وردتني من مصر يتخللها بين آن وآن تعليق للناقدين المصريين : غالي شكري ، وصبري حافظ ، وكلما استمعت أو شاهدت عملاً أوبراليا تملكني شعور بالرفعة والهيبة لهذه الأعمال الباذخة المهابة، وبالفعل جازفت سنة 1970 بكتابة أول عمل أوبرالي بعنوان (حينما يتعب الراقصون ترقص القاعة) حزت فيه جائزة كتاب المغرب العربي ، غير أن الفرقة القومية العراقية قد أضاعته أو أخفته بعد أن قدمته إليها حينها .
الأوبرا دراما شعرية إنشادية بحس وتقنية عاليين وفق قوانين جمالية متخطية المهمة التقليدية للأجناس المتجاورة داخلها إلى أداء وظيفة كلية تحاول الاقتراب من طبيعة الحيوية العامة والمشتركة لتلك الأجناس ، وعلى هذا كانت (سنمار) النص الأوبرا الذي كتبته أخيراً والذي هو على أوان الصدور بعد أن أطلعت على نصوص وأعمال أوبرالية عالمية عديدة مثل ، أوبرا عايدة وأوبرا وليم تل ، وفاوست ، ونهاية الزمن ، وشمشون ودليلة ، وحلاق أشبيلية ، وسالوما ، والحرب المقبلة ، والأوبرا العائمة ، والضالة ، وكارمن ، ولاترافياتا ، وتريستان ، وايزولت ، وعطيل ، وغيرها .
لا شك في أن تقديم عمل أوبرالي متكامل هو من أصعب الفنون ، بل أن فن الأوبرا هو فن الأزمنة القوية في التاريخ .
* الشعر عالم ما بين الصناعة والخلق والتخليق والدهشة والإبداع ومن ثم الحياة ، كيف يبدو لك الشعر العراقي الآن؟
- في الكثير مما ينشر منه اليوم هو تحت خط الإبداع ولا يعدو أن يكون أكثر من حِيَلٍ شعرية دونما متعة أو هدف جمالي، كل مبرراته لا تتجاوز رغبة صاحبه في إنتاج جديد ، إذن فحاضر الشعر العراقي اليوم متوقف عن الحركة وأن مساحة واسعة من أرضه الخضراء مهددة بالتصحر، فقد تساوى الشعر واللاشعر أمام المعايير والفرضيات النقدية غير الحقيقية وغير الصادقة، في انتزاع الاعتراف المتكافئ من الناقد بعد أن كانت القصيدة الشعرية الحقيقية بقرة معطاء ومقدسة، أنها تلك التي تميز بالوضوح مع العمق وعلى الشاعر الذي يروم الوصول إلى متلقيه أن يجعل من صوره الشعرية صوراً متبناة من قبله أيضاً لكي تحقق القصيدة ذاتها بالمتعة والتبليغ والوصول.
إصدارات الشاعر
في المسرح الشعري
1- وأدرك شهرزاد الصباح 1972 فازت بجائزة المسرح العراقي 1973
2- حينما يتعب الراقصون ترقص القاعة 1973 فازت بجائزة المسرح 1972
3- الديك النشط 2002 وهي مسرحية للأطفال
في الشعر
1- شباب وسراب 1964
2- مهرا لعينيها 1965
3- لو ينطق النابالم 1967
4- أنا وهواك خلف الباب 1970
5- لم يأت أمس سأقابله الليلة 1975
6- يحدث بالقرب منا 2001
7- البقاء في البياض أبدا 2005
8- الهامش يتقدم
9- 2007
حائز على قلادة الإبداع لجائزة الدولة الكبرى في الدراما السمعية 2002
اصدر مجلة ( الحرف ) وهي مجلة عنيت بقضايا الفكر المعاصر