اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > يَحْدُث في سجن النساء

يَحْدُث في سجن النساء

نشر في: 18 ديسمبر, 2012: 08:00 م

تربية الأطفال أمر معقد جداً، فالكائن البشري حساس في مراحله العمرية الأولى، لأنه يتفاعل مع أي تصرف أو كلمة أو إيماءة. حواسه مستفزة دائماً، لأنه بصدد التعرف على المحيط، ولولا هذه الحساسية المفرطة لما استطاع فهم رموز اللغة المعقدة بزمن قياسي. أتذكر دائماً اللحظة التي أخْرَجْتُ فيها أحد أطفالي مع أمه من مستشفى الولادة، وفي الطريق مر بجانب سيارتنا موكب أحد المسؤولين "الكبار"، وكالعادة كان المسؤول مصحوباً بضجيج صفارات الإنذار المرعب. هذه الأصوات كانت عالية لدرجة أشعرتني بالخوف الشديد على الصغير. وعرفت من حينها أنها ستترك بصمة قاسية في أعماق وعيه. وفعلاً فقد تجاوز عمره الثلاث سنوات ولم يزل يسارع إلى وضع أصابعه الرقيقة في آذانه ما أن يسمع صوتاً عالياً. أيَّ صوت عال يمكن أن يثير هلعه، حتى أنا عندما أهم برفع صوتي بوجهه يسارع هو لأداء إحدى حركتين: إما أن يكون قريباً مني لدرجة تمكنه من وضع يده على فمي لإغلاقه ومنعي من الصراخ، أو يكون بعيداً فيغلق أذنيه بأصابعه. ومهما كان تعاملنا معه داخل العائلة رقيقاً ومتفهماً إلا أنني اشعر بأننا آذيناه في كثير من المواقف. عجزنا عن تلبية بعض احتياجاته وحرمناه من بعضها وأثرنا قلقه لسبب أو لآخر. الأمر الذي يؤكد لي صعوبة التعامل مع الأطفال.
قبل أيام تذكرت هذه التفاصيل وأنا أقرأ تقريراً عن وجود عدد من الأطفال في أحد سجون النساء العراقية، وسألت نفسي لحظتها عن قسوة الظروف التي يمكن أن يمر بها أمثال هؤلاء الأبرياء. سألتها عن السبب الكامن وراء حشرهم بهذا المحشر التعس، وكيف أن هذه البيئة ستضع بصماتها المشوهة على صفحات ذواتهم البريئة. بالتأكيد بيئة السجن غير مناسبة لتربية الأطفال الرضع أو دون سن الثلاث سنوات، وبالتأكيد أن الأم في مثل تلك الظروف لن تكون مهيأة لأداء دورها بشكل سليم، وبالتأكيد ستكون هناك مواقف تخيفهم، وأخرى تزعجهم أو تقلقهم أو تجعلهم عرضة لأمراض نفسية أو جسدية. وبالتأكيد لن تكون الحكومة العراقية معنية "بهذا المستوى من المشاكل"، فلديها "مشاغل" أكثر أهمية من الأطفال، وإلا لما أكد التقرير المشترك بينها وبين اليونيسيف أن عدد الأطفال المحرومين في العراق يتجاوز الخمسة ملايين طفل!!
سيخرج هؤلاء الأطفال من السجن في سن الثالثة، سيخرجون وهم مصابون بجروح غائرة في أعماق ذواتهم. وما يزيد أزمتهم تعقيداً، أن الإهمال الحكومي الذي حرمهم أبسط حقوقهم داخل السجون سيحرمهم منها وهم خارجه. فلن تكون هناك مؤسسات رعاية مختصة بحالاتهم، لتخفف عنهم صعوبة خروجهم من عالم قاس إلى آخر أشد قسوة. أقصد خروجهم من ضائقة السجن إلى ضائقة الابتعاد عن أمهاتهم. سيكبر هؤلاء الأطفال وهم محاصرون بعلامات استفهام كبيرة ومخيفة، ولن يكون بجانبهم، على الأغلب، من يتولى كسر حصار أسئلتهم وإنقاذهم من حزنها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ali

    الاستاذ سعدون/أليس من الاجدى من الدولة ان تحتضن هؤلاء الرضع من اول يوم لولادتهم في دور خاصة بعيدا عن بيئة السجون (رغم قسوة ذلك على امهاتهم)مع مراعاة ان لا تكون هذه الدور هي الاخرى ذات بيئه سيئة ولا انسانية

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram