علي عبد الأمير عجامتبدو عودة المطرب كاظم الساهر الى بلاده قبل ايام عبر بوابة "سفير اليونسيف للنوايا الحسنة" فرصة لقراءة جوانب اجتماعية عراقية كما عكستها احداث العقدين الماضيين في نتاج صاحب اغنية "بغداد"، ومن تلك الجوانب هجرتهم ومنافيهم، حيث يقول الباحث والكاتب العراقي عبد المنعم الاعسم في مقدمة كتابه "في الهجر والهجير" ان "الهجرة هي العنوان المروع لحكاية رويت بأشكال عديدة وبلغات مختلفة .. حكاية الناس الذين وجدوا أنفسهم قد اقتلعوا عنه من بلادهم وصاروا خارج الحدود".
ويضيف الاعسم في كتابه الذي يتناول فصولا من هجرة العراقيين وانتشارهم بين منافي الارض ان "الهجير هو ذلك العذاب الذي لحق بالضحايا".ولأن سنوات عقد التسعينيات من القرن الماضي، كانت عراقيا سنوات حصار ونفي وهجرات وأشواق منهكة، سنوات حقائب ورحيل وبريد يائس، ومشاعر مكبوتة وأخرى يدثرها الموت في ظلامه البارد كما في مسلسل غرق المهاجرين العراقيين في بحار الله من الباحثين عن " ساحل آمن"، لذا كان طبيعيا أن تنعكس هذه المؤشرات الاجتماعية في أعمال غنائية عراقية، إذ تكون تلك الإعمال انعكاسا لنبض اللحظة المعيشة وموجهاتها.وبحسب حساسية عالية للمطرب الفنان كاظم الساهر، نجده وقد تلمس "هجرة" العراقيين و "هجيرهم" منذ سنوات التسعينيات الأولى، وما إن بدأت العاصمة الأردنية عمّان، تصبح محطتهم الأولى في مسيرة يائسة أحيانا ومثمرة أحيانا فتصل بهم الى "الخلاص".وكانت أغنية "رحّال" ترنيمة موسيقية شديدة الصفاء وضاجة بالتعبير الراقي عن الهجرة والبحث عن مكان آمن تجد فيه النفس معناها واستجابتها الانسانية. وتبدأ الأغنية التي لم يقلل من دلالاتها كونها مقدمة موسيقية لمسلسل تلفزيوني، بضربات قوية على الطبول فيما الكمانات تعزف بسرعة لحنا متكسرا، كأنها بذلك تشير الى تكسرات النفس إزاء قوة المصائب المكفهرة التي تعبّر عنها ضربات الطبول، وما بينها يرتفع صوت الساهر كأنه حشرجة عاشق للحياة تتولى عليه النوائب."لاتشكُ للناس جرحا أنت صاحبهلايؤلم الجرح إلا من به ألم"ومن ثم ينتظر "الكورس" في تكوين خلفية عمادها مفردة "رحّال" ليأتي صوت الساهر صافيا كأنه الامل برغم الآلام :"إنا مهرتي جرحي سفر عمري طويلأعثر ..ورد أنهض.. أضعف مستحيلزمني يعاندني ويخطف ما أريدكسر ظهري ..قيدني بحديد"ولكنه وبحسب لمسة ذكاء وتدل على حساسية روحية عالية ينشد:"أوكع وأصيح الله ..وأبدأ من جديد"واللافت في معالجة الساهر للفظ الجلالة " الله"، أنه يكبرّها لتأخذ مدياتها الروحية الخلاقة، كذلك مدى إستخدامها الشعبي الحميم، فهي تصبح ما يشبه النداء الذي يقي الإنسان من العثرات ومن السقوط؟ولأن الهجرة والرحيل بحثا عن أمل خاب في المكان الاول: الوطن، هما قرار شخصي ويعكس موقفا من الحياة وإنسجاما مع غايات النفس وتطلعاتها، لذا نجد الساهر في أغنيته يخاطب "الرحّال":فيقول "بصبرك وبسهرك مايبقى نفس الحال .. رحّال رحّال""جرحك غطا وفراش..ودوّر لعلتك دوا .. ما من دوا ببلاش"ويصوغ الساهر معالجة موسيقية بارعة لهذا الكلام المؤثر الذي صاغه الشاعر كريم العراقي، فيأتي اللحن إيقاعيا محتدما لكن دونما صخب، للدلالة على ان الهجرة والرحيل يستدعيان من الإنسان الذي قررهما، عملا دؤوبا وقدرة على مواجهة الخسارات والأعباء والآلام، ثم ينكسر اللحن الإيقاعي ليشف ويرقّ مع أنغام ناحلة تؤديها أوتار العود ولينشد معها المغني:"ياروحي أصعب سفر.. سفر البلا آمالمن جرحك إصنع أمل ،قدرك تظل رحّالياربي عين (أعن) البشر ..مرات يحمل قهر ..ماتحمله الجبال".هنا تاكيد آخر عند الساهر على ان الاغنية العاطفية، ليست في حدودها الضيقة، والثابتة: رجل يشكو عواطف لإمراة أو بالعكس، وإنما العاطفة التي تنفتح على الحياة، وجوانبها الضاجة باحتدامات وانكسارات إنسانية، مثلما تشهد أيضا صعود المشاعر وهي تنتصر: "بجرحك وبسهرك مايبقى نفس الحال".ولاينهي الساهر اغنيته "رحّال" التي قدمها مع مجموعة أغنيات عام 1992 بصوته، بل يبقى ذلك للكورس وللطبول، فهو ينسحب آخر الاغنية، بصفته "رحّالا" يمضي في طريق رحلته مواجها قدره "قدرك تظل رحّال"، فيما الكورس الرجالي ينشد بلوعة: رحّال.. وتأتي الطبول بضرباتها القاسية لتنهي كل شيء، فمثلما ابتدات الأغنية بقرع تلك الطبول الخشن والحاد ،كأنها الأقدار العنيفة التي تنزل على الإنسان، تنتهي بالطبول لتظل تلاحق الرحّال بقدرها فيما لا أرض تؤويه، وبذلك تكاد الأغنية تخلق أصفى معالجة غنائية وموسيقية عن أكثر ملامح العراقيين قسوة في تاريخهم المعاصر: الهجرة والنفي. *من كتاب قيد الطبع بعنوان"في سوسيولوجيا الأغنية".
هجرة العراقيين و هجيرهم فـي "رحّال" الساهر*
نشر في: 14 مايو, 2011: 08:24 م