فخري كريم
في لحظةٍ حرجةٍ من تطوّر العملية السياسية في بلادنا، يتعرض الرئيس مام جلال إلى جلطة دماغية تضعه تحت العناية المشدّدة في مستشفى مدينة الطب.
وكان الرئيس قد عاد إلى بغداد منذ بضعة أسابيع لتكثيف جهوده مع الأطراف والكتل الوطنية في مسعى عسى ألاّ يكون الأخير لإنقاذ الوضع ممّا يتهدده من مخاطر وتحديات.
لم يفقد الرئيس في كل الأوقات الصعبة تفاؤله وإيمانه وثقته بإمكانية إعادة الأمور إلى نصابها في إطار العملية السياسية الديمقراطية، بما انطوت عليه من قيم التوافق ومبادئ التشارك، مثلما لم تضعف قناعته بضرورة تكريس شعار "شدّة الورد" الأثيرة عنده وتجديده ومقاومة عوامل ذبول هذه الشدّة، رغم تغيّر الأجواء والنوايا وصروف الحياة وتعرّجاتها.
ولم يكن مام جلال ساهياً عن الصعوبات والعراقيل، كما لم يكن معزولاً عما يدور في مخابر السياسة ودهاليزها وما يجري تداوله فيها، وهي لم تكن ترتقي دائماً إلى ما كان يريد ويتمنى، لكنه حتى في تعامله مع ما كان يترشح عنها من حقائق سلبية ومنفّرة، ينبش في عمقها ليعثر على الجانب الآخر الايجابي.
كان شيعياً بامتياز مثلما كان سنياً بالوراثة، دون أن يتخلى عن علمانيته المكتسبة ثقافياً، فتعقب ذاته المأسورة بالانفتاح على "شدة ورده" لينحت لنفسه تعريفاً يعبر به أسوار الطوائف والمكونات والفرق المأزومة، فاختار أن يكون "شنياً"!، يهيم بمآثر الأئمة والصحابة بانتقائية معايير العدل والإصلاح والقيم الإنسانية النبيلة.
كان كردياً شديد الإحساس بانتمائه القومي، لمّاحاً في التقاط عناصر القوة ومواقع الضعف في تاريخه، شديد الفخر، بلا تعالٍ، بما سجله من مآثر الكفاح المديد والتضحيات، متألق الوجه، مشرق العينين وهو يستذكر صفحات تلك المآثر والأمجاد، لكن عمق مشاعره لم يكن يحيد به نحو أيّ قدرٍ من التعالي القومي، أو التزمت، أو الانفصال عن ذاته الإنسانية التي جعل منها معبراً للانعتاق من ضيق الأفق والانغلاق.
وهو الكردي المنذور لشعبه، ظل يتعلق بصورة أول لقاء له بملابسه الكردية مع جمال عبد الناصر، وهو شاب مفعم بالحيوية في نهاية العقد الثالث من عمره، ممثلاً للقائد مصطفى بارزاني في الخمسينيات من القرن الماضي، ويستعيد بمشاعر الفخر وجوده مع المقاومة الفلسطينية في سبعينيات ذاك القرن.
كرديٌّ، يحفظ عن ظهر قلب أجودَ مختارات شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، ولا ينام ليلته أينما رحل دون أن يتجاور مع ديوانه ومختاراته.
وفي هذا كله، قبل وبعد، إذ تمثلت في عقله وقلبه ووجدانه ثقافة شعبه الإنسانية، رأى في اللحظة التاريخية الماثلة تجسيد عراقيته، فتماهى فيها كما لو انه طيف العراق ونسيجه ومدارك أقوامه ومكوناته.
وقد وجد نفسه تائهاً بلا جذور، إذا لم يلتفت إلى ماضيه ليتجسد فيه صورة حاضره، كردياً عراقياً أمميّ المشرب والرافد.
عاد المام الى بغداد قبل بضعة أسابيع ليرمم ما صدئ من عناصر العملية السياسية، وليرفدها من معين حكمته ومرونته وعزيمته لدرء المخاطر المحدقة بها بفعل فاعلٍ متلبس. كان يرى بعقله، متجاوزاً مناطق الألم والحزن في وجدانه وضميره المثقل من حالة اللا توازن التي بات الوضع السياسي في البلاد ينوء تحت أعبائها وصروفها.
وظل يتجاوز كل يوم تعبه وإحساسه الداخلي بالضيق كإنسان وفرد في جماعة تشعر بالضّيم والخطر دون أن يسمح لنفسه بالانحياز، ممنيّاً النفس بتجاوز كل حواجز القلق وتفكيك معاول الهدم، طامحاً لإعادة الأمل للناس إلى نفوس العراقيين الذين أضناهم القلق من محاولات استباحة ما تبقى لهم من مطمح.
لكن قلب الرئيس وروحه وضميره ظل يتململ تحت ثقل الممانعة والتجهيل والمراوغة.. ظل ينتظر وهو يعتصر آلامه وظنونه ورواسب ما يحيط به من إجحاف وتنكر.
ان الرئيس وهو يغفو غفوة مقاتل مؤمن، ينتظر من أولئك الذين أضنى نفسه، تفهماً لدوافعهم، رغم الاختلاف، ينتظر منهم هذه المرة أن يتداركوا، ما كان يعمل من أجل تداركه، لعلهم يطوقون مراجل الفتنة، ويطفئون لهيبها الذي صار ناراً تمد ألسنتها في كل صوبٍ ومنحى.
إن لحظة العودة إلى الوعي والحكمة دين واستحقاقٌ للرئيس عليكم، قد تتكفل وهو يرقبها، بإنهاء غيبوبته، وهي غيبوبة نفورٍ مما لا يحتمله ضميره..!
أما انتم أيها العراقيون الذين تغنى بحكمتكم الرئيس، فارفعوا أيدكم حيث يمتد إيمانكم، وادعوا له بالعودة إليكم، معافىً مفتوح العينين على مستقبلكم..، إنها لحظة وفاءٍ نادرة، وهو ما تبقى لكم من فسحة الأمل والرجاء..
أما أنا، فكلي أسىً وحزن لأنني تكابرت وتماديت فلم أكتب بحقك ما يعتمل في وجداني ويضيق به صدري، فهل لك أن تحيي فيّ الأمل وتستجيب لدعائي وتنهض لتعرف ما أحمله لك في وجداني من مشاعر وتراتيل صداقة تعاهدنا عليها، وظللتنا افياؤها الوارفة..
مام..، لا تخذل محبيك.. أرجوك، افتح عينيك، وتسامى فوق جراح روحك،..
انهض رجاءً!
-------------
امتدح الجواهري مام جلال في إحدى روائعه، ومما جاء فيها:
شوقاً "جلالُ" كشوقِ العينِ للوسنِ
كشوقِ ناءٍ غريبِ الدار للوطنِ
.............................
"جلالُ" صنتُ عهوداً بيننا وثقتْ
فما تَوثقتَ من عهدٍ بها، فصُـنِ
جميع التعليقات 3
خليلو...فيلسوف بغداد
في الثالثة فجراًمنع الكرى عن عيني قلقي على هذاالشيخ غير الطاريءعلى متاهات السياسةكمن نراهم ونسمع تفاهاتهم كل يوم بل كل ساعة أرفع يدى,وأنا ثمانيني مثله,إلى السماءأن ينجي خالقهاالمام الطيب ويعودإلى مازال يؤديه في سبيل بقاءشدة ورده زاهية فلا يتركها بيدحاصدي
سامان نديم الداوودي
شكرا للاستاذ فخري كريم على صدق الكلمات وطيب المشاعر وهو ما يحمله كل منصف ومخلص ومحب لشخص مام جلال في العراق وما لعبه من دور ايجابي في تاريخ العراق الحديث منذ ما يزيد على خمسة عقود يحلوه ومره رئيسا كان ام ثائرا معتدلا بسيطا مؤدبا حتى مع خصومه. كلماتك استاذ
د فؤاد عبد الرحمن
انهض أيها الباسل المنهك من تفاهات الصبيان انهض وفاجئنا باطلتك المشرقة وقل لهم كفاكم أيغالا بدماء العراقيين كفاكم عبثا بمصيرنا أيها الرجل الصادق مع نفسك نحن بحاجة لك عمودا لخيمتنا :: العراق نتضرع لله سبحانه ان يرفق بك ويشفيك ويعا فيك