هل ستشهد بلداننا لحظة اعتراف وتجيب على سؤال جواهر لال نهرو القديم أم تنتحر مثل الشاب بوعزيزي وتحصل على خلاصها الابدي السهل؟ لقد صادفت بالامس بغداديا احتفظ له بتقدير قديم. اسأله: هل عدت من سوريا اذن؟ يجيب بعصبية: لن اترك سوريا، جئت في زيارة لبغداد وانا عائد فورا رغم ان رصاص المتقاتلين دخل الى داري عبر الشبابيك اكثر من مرة في دمشق.
الرجل يعتقد اننا المتواجدين في العراق مصابون بتخدير ولا ندرك الحجم الحقيقي لمأساتنا، وان القادم من بلد آخر فقط يمكنه ادراك طراز ولون بلاوينا. يقول ان الخراب السوري مروع جدا، ومع ذلك فإنه لا يطيق البقاء في العراق! وهناك ٥٠ ألف عراقي عادوا من سوريا الى بغداد والموصل والبصرة، وبعد ايام قليلة سجلت الامم المتحدة ان معظم هؤلاء نزحوا ثانية الى سوريا ولم يطيقوا العراق ومصائبه!
رحت استجوب هذا القادم من ميدان المحرقة عن تفاصيل الوجع الشرقي في دمشق التي كانت تحتضن كل الناس ثم ضاقت بأبنائها. يقول: العراقيون في الشام تزداد مخاوفهم لان تنظيم القاعدة القادم من العراق بدأ يحصل على نفوذ اكبر بين المقاتلين المعارضين. كان في وسع العراقي نسبيا ان يتفاهم مع الجيش الحر لكن "قاعدة العراق" لا تتردد في تصفية كل عراقي تعثر عليه، فهي تشعر بأن العراقيين "خذلوها بلؤم"!
انها فنطازيا يا صديقي، ان يقع شعب اصيل كالسوريين بين فكي كماشة نظام اهوج ومقاتلين همج كقاعدة العراق. سألته عن ناشرين واصحاب مطابع سوريين اعرفهم، فأجاب: فلان لم يعد يطبع لان المقاتلين استولوا على مطبعته شمال دمشق، وجيش بشار صادر شحنة الورق تنفيذا لبند الاحكام العرفية. الصناعة في حلب تحتاج عشرين عاما لتنهض من جديد، ومثلها الزراعة في أدلب. صاروا مثلنا. هكذا اختصر الصديق الامر.
البارحة كنا نحدق في شاشات التلفزيون وهي تعرض الموت والخراب الشامي. وبدت خرائب حلب مثل لحظة حقيقة لكل العرب. الشرق الاوسط جلد يغلف حضارة متراجعة، وحين احدث الظالم ثقبا في حلب ظهر الانحلال والتراجع الحضاري الذي يرتهن كل المنطقة. حلب ليست هي المدمرة فقط، بل هي شاهد على ان كل المنطقة مدمرة من الداخل وأن ما تحت الجلد الذي يبدو سليما حلوا وعامرا، خراب رهيب من اصفهان الى نواكشوط. يكفي لظالم ان يحدث ثقبا في قشرة الجسد الخارجية كي يظهر الخراب الكامن على عمق بضعة سنتيمات في روح الامة.
ولذلك لا أحد في المنطقة يهنأ بسلامه ولا ثرائه، فالجميع قلقون وان تظاهروا بغير ذلك. كل مدننا تتابع خراب حلب بقلق، وتخشى ان تخرب مثلها في اي لحظة. ان السلام هش لان اكثر من حاكم يمكنه ان يصبح اسوأ من بشار حين تهدد "كرسيه الهزاز". والأخطر ان الكثير من معارضي المستبد في بغداد او القاهرة، يشبهونه. يأخذون منه السلطة لانه ظالم وسرعان ما يستأنفون ابشع صور الظلم. اذن ليست المشكلة في السلاطين ودمويتهم، انها مشكلة حضارة لا تعرف ماذا تريد. وهذا ما قاله نهرو زعيم الهند لنحو ٤٠ رئيس دولة حديثة الاستقلال في مؤتمر لعدم الانحياز قبل خمسين سنة. سخر منهم قائلا: اراهن انكم كنتم شطارا في طرد الاحتلال الاوروبي، لكنني اعلم انكم اكثر ظلما منه، لانكم لا تعرفون ماذا ينبغي ان تفعل الأمة. انها حيرة كل حاكم جديد في أمة تمارس الحيرة منذ ألف عام.
منذ ادخل نابليون المطبعة الى مصر قبل قرنين قررت شعوبنا ان تتقدم، لكنها تفشل كل مرة. الغربيون راجعوا نظامهم الاخلاقي وانتقدوا ماضيهم قبل ان يخترعوا الماكنة والصاروخ، وظهر لديهم نيتشة وفرويد بموازاة جيمس واط واينشتاين. اما نحن فإن معارضتنا تنطلق من رحم تخلفنا الثقافي، وتأتي لمقارعة مستبد كصدام حسين او الاسد، وهنا لا توجد مقومات ثورة وتغيير، بل تخلف يصارع تخلفا. كان علينا ان نثور على انفسنا اولا ثم يسقط المستبد تلقائيا، ولكن "هيهات العقيق" اذ لم نجرؤ على الاعتراف بأن الداء في نظام الحضارة لا السلطة. ولذلك فإن الشاب بوعزيزي لم يقم بثورة، بل احرق نفسه وتخلص كي لا يضطر لمتابعة جنون مرسي والمالكي واحمدي نجاد الذين خلفوا مبارك وصدام ومحمد رضا شاه. ولعل الاعتراف بأننا نظم بشرية واخلاقية خارجة عن الخدمة سيحصل اخيرا حين يكتمل الخراب، وعندها قد ننصت الى سنطور شرقي هائل من ألبوم "زه بعدما" او "من بعدما" الذي عزفه شباب شيراز حزنا على كل شيء. وعندها ايضا قد نمتلك تعليقا مناسبا على ملاحظة نهرو الصادمة التي لا تزال تسخر منا. سلامتك يا شام.
حرائق حلب ومصايب بغداد
[post-views]
نشر في: 18 ديسمبر, 2012: 08:00 م