عندما سينكبّ المؤرخون في غدٍ قريبٍ على كتابة تاريخ هذه السنوات العصيبة التي عاشها العراقيون.. سيتذكرون حتما أن في هذه البلاد عاش رجل اسمه جلال طالباني.. حيث ستروى من خلال سيرته حكايات العراق. رجل جاء إلى السياسة من خلال اكتمال ثقافي، وصفاء نية.. واستقراء واستدلال وتنقيب وملاحظة وتأمل عميق في السياسة والحياة.. ومن لغة قربته من الجواهري كما لم تقرب أحداً سواه.. ثائر لا يهدأ.. طامح لا يرضى.. دؤوب لا يستقر.. مثقف لا يكتفي ولا يرتوي، صحافي طالما ندم على أن السياسة أخذته من بلاط صاحبة الجلالة، كما يحلو له أن يسمي الصحافة.. يرى دوما أنه جزء من العروبة التي أعطت احمد شوقي والجواهري والسياب.. كما انه جزء من ثقافة الجبل التي أعطت كوران واحمد خاني ويشار كمال.. من أكثر ساسة العراق معرفة بأحوال العرب وحالهم، واعلم السياسيين بأدب العرب وابلغهم وأكثرهم سماحة.. الذين يعرفون مام جلال جيدا لم يسمعوه يوما يتفوه بكلمة طائفية.. إلا في مجال المزاح الذي اشتهر به.. فقد ظل ولا يزال كرديا بين العرب.. وعربيا بين الكرد.. تتغير السياسة ويتغير مزاج ساستها إلا جلال طالباني فقد ظل ولا يزال حارسا للسلم الوطني، حالما وعاشقا لهذه البلاد المتعددة الأعراق والأطياف..
جلال طالباني سيرة وطن بأحزانه وأفراحه وصمود أبنائه ضد الظلم والاستبداد.. وأيضا حبهم للحياة وتسامحهم وطيبتهم، نسيجاً وحده دون سواه، ولم تكن مهارته في السياسة أقل منها في الحياة العامة.
أستاذ في الحضور والحياة والأسلوب.. خليط من السياسة والأدب والتاريخ والنضال.. يرى في السياسة احتفاءً بنبل الوعد وصدق القول.. فالسياسة، هي حق وخير وجمال ومعرفة وتصوف.. والسياسة هي ثقافة إنقاذ الإنسان.. يدرك مثلما ادرك ديغول من قبله من ان لا سياسة بلا أسس روحية صافية.
في كتابه الموسوعي "الآثار السياسية الكبرى" يكتب جاك شفاليه "لم يعش السياسة من لم يكابد من تكاليفها.. أما من اتخذها مهنة مربحة فانه لا يكابد من تكاليفها شيئاً"، ولهذا سيكتب مؤرخو هذه المرحلة ان على هذه الارض عاش رجل تكاليف السياسة وحولها إلى شيء جميل ونبيل.
يقول الفلاسفة في وصف الرجل الكامل الصفات انه "كلي" اي لا يتنازل ولا يساوم ولا يهين.. اذا تكلم صدق وإذا وعد وفى.. كذلك ظل جلال طالباني ذلك النبيل المتدفق حماسة وحبا ومشاعر تجاه الآخرين.. ولهذا سيظل ظاهرة وطنية لا فردية.. مبكرا قفز إلى دائرة التحدي والاخطار.. فكان أولاً في السياسة، وأولاً في دروب الحريات ومحاربة الظلم والدكتاتوريات.
ينتمي جلال طالباني إلى طائفة من السياسيين الأثيرين على قلوب الناس.. سياسي يتمتع بعبقرية لها طعم خاص يترك أثراً في النفس.. حين تشاهده تشعر وكأنك قرأت كتاباً ممتعاً.. فعند هذا السياسي والإنسان قدرة عجيبة على تشرب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة.
يفاجئك، وهو الشيخ الذي تخطى الثمانين بانفتاحه على كل التجارب الجديدة، متكئاً على مقولة النفري «العلم المستقر كالجهل المستقر». ولهذا لم نجده يوماً يتوقف في محطة ثابتة. لطالما، خضعت تجربته لتحولات كبرى، منذ أن درس القانون في خمسينيات القرن الماضي ليدخل الى السياسة من باب العدالة، لا من باب الشطارة.
اليوم ومام جلال على فراش المرض يصر بعض الساسة ان يأخذونا معهم الى مستنقع الترهات.
اليوم ونحن نعيش في مرحلة صعبة أخرى من مراحل مصير الوطن نريد سياسيين بقامة مام جلال، لا سياسيين يضيقون علينا طريق الأمل من اجل الوصول إلى مبتغاهم، نريد وطنا نعيش فيه تحت القانون لا في ظل رجال دولة القانون، نريد وطنا للمستقبل، وليس في إمارات قائمة على سلوكيات ومناهج القرون الوسطى.
كتب جبران خليل يوما الى ميخائيل نعيمة يرجوه فيها قائلاً: "رجوناك ألاّ ترحل عنا.. لقد كنت ظهيرة في غسقنا.. وظل وجودك مبعث أحلامنا.... ما أنت بالغريب بيننا ولا بالضيف.. بل أنت سيد الدار".
مام جلال.. حارس السلم الوطني
[post-views]
نشر في: 18 ديسمبر, 2012: 08:00 م