إن جعل حقوق الإنسان حقيقة واقعة بدلا من مجرد حلم بعيد المنال هو في الواقع تحد يواجه جميع الحكومات وحكومة العراق وشعبه ليسوا استثناء. وينبغي أن تسمو حقوق الإنسان على السياسة. وعلينا أن نهنئ حكومة العراق وشعبه على خطة العمل الوطنية لحقوق الإنسان التي تأتي تنفيذا للتوصيات التي قدمتها الأمم المتحدة نتيجة الاستعراض الدوري الشامل لامتثال العراق لالتزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان حيث تمثل الخطة خطوة ملموسة على طريق جعل وعد حقوق الإنسان حقيقة واقعة لجميع المواطنين في العراق.
يعرف الشعب العراقي جيدا معنى المعاناة من انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية وذلك من واقع تجربته المريرة. فقد تعرض العراقيون لعقود من الأنظمة الاستبدادية والحرب والغزو والاحتلال والنزاعات المسلحة. وفي حين طرأ بعض التحسن في السنوات الأخيرة، تبقى هناك تحديات كبيرة ينبغي التغلب عليها حتى يتمكن العراق من تحقيق هدفه في أن يصبح دولة ديمقراطية بحق يكون فيها احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان حقيقة واقعة لجميع المواطنين.
ومن بين التحديات، يساور الأمم المتحدة قلق عميق من أن الشعب العراقي لا يزال يعاني من آثار العنف، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، على أيدي الإرهابيين، ويتمثل ذلك في الخسائر في الأرواح والإصابات وتدمير البنية التحتية والتأثير السلبي لمثل هذه الأعمال على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي حين يتلقى ضحايا النظام السابق التعويض وغيره من أشكال الدعم الاجتماعي والاقتصادي، فإن ذلك لا ينطبق على أولئك الذين وقعوا ضحايا للعنف خلال السنوات التسع الماضية. ولذا تحتاج الحكومة لبذل المزيد من الجهود لضمان توفير المساعدة الطبية والاجتماعية وغير ذلك من أشكال الدعم لجميع العراقيين الذين كانوا ضحايا للأعمال الإرهابية بغض النظر عن هوية مرتكبيها وزمان ارتكابها.
ولا تزال مبادئ سيادة القانون ومراعاة الأصول القانونية والحق في المحاكمة العادلة غير مفهومة أو مطبقة بشكل عام في العراق حتى هذه اللحظة. وفي حين يتعين على الحكومة أن تضمن خضوع أي شخص متهم بارتكاب جريمة للمساءلة، فإنه يجب أن تكون هذه المساءلة متفقة تماما مع القانون الدولي ومقتضيات الدستور والقوانين العراقية لضمان معاقبة المذنبين فقط دون الأبرياء الذين يعانون ظلما.
يعاني أفراد الشرطة وقضاة التحقيق والمدعون العامون من نقص الموارد - بما في ذلك تقنيات الطب الشرعي الحديثة التي تساعد في التحقيقات في الجرائم. وهناك حاجة ماسة لإصلاح القوانين حيث يسمح قانون مكافحة الإرهاب باحتجاز الأفراد لفترات طويلة دون السماح لهم بالاتصال بمحامين أو بأفراد الأسرة. ونادرا ما تنفذ المحاكم أحكام الكفالة حيث تفضل بدلا من ذلك احتجاز الأشخاص بانتظار المحاكمة وبالتالي تزيد بشكل كبير من مشكلة الاكتظاظ في مرافق الاحتجاز وتضع ضغوطا أكبر على السجون والمدعين العامين والمحاكم. كما تم إبلاغ البعثة عن حالات فساد، بما في ذلك مزاعم تفيد بأن قرارات المحاكم لا تنفذ في بعض الأحيان أو أنه يتم احتجاز أشخاص ظلما حتى يتم دفع مبالغ من المال لموظفي السجون أو الشرطة أو غيرهم.
ولا تزال الأوضاع السيئة في العديد من السجون العراقية تشكل مصدر قلق حيث ينتظر الآلاف من الأشخاص محاكماتهم في ظروف تعرض صحتهم النفسية والبدنية إلى الخطر على الرغم من أنه لم تتم إدانتهم من قبل محكمة قانونية وأنهم لا يزالون يتمتعون بافتراض البراءة.
وفي حين ينص القانون العراقي على عدم قبول القضاة للاعترافات التي يزعم أنها انتزعت تحت الإكراه أو نتيجة سوء المعاملة أو التعذيب، فإن رصد إجراءات المحكمة من قبل الأمم المتحدة يشير إلى أن القضاة يقبلون مثل هذه الاعترافات بشكل روتيني دون دراسة.
وللأسف، تسهم هذه العوامل في إيجاد بيئة تسمح بإساءة معاملة المحتجزين وتعذيبهم وتعيق بناء ثقافة احترام وحماية حقوق المتهمين والمدانين بارتكاب جرائم التي يكفلها القانون الدولي والدستور العراقي. وتشير هذه العوامل أيضا إلى أن هناك خطرا حقيقيا بأن يتم في بعض الأحيان اعتقال أو إدانة أشخاص أبرياء ظلما بتهمة ارتكاب جرائم لم يرتكبوها وما يترتب على ذلك من مواجهتهم سنوات في السجن أو عقوبات أشد. ويمكن أن نحكم على الديمقراطية من خلال نوعية العدالة المقدمة للفقراء والضعفاء والفئات الهشة. والعدالة ليست عدالة والديمقراطية ليست ديمقراطية إذا تمت معاقبة الأبرياء. وفي هذا السياق، يقال إن قتل رجل بريء يعني قتل البشرية جمعاء. وللأسف فإن العراق يقدم ضمانات قليلة بأنه لن تتم إدانة الأبرياء ظلما في بعض الأحيان وإعدامهم نتيجة لذلك. ويعد هذا من بين الأسباب التي تدفع الأمم المتحدة إلى الاستمرار بدعوة حكومة العراق لوقف تنفيذ عقوبة الإعدام وفقا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة. ونحث الحكومة أيضا على الشروع في مراجعة رسمية لاستخدام عقوبة الإعدام، بما في ذلك إلغاء القوانين التي تفرض عقوبة الإعدام في 48 جريمة.
نظراً للأهمية، تحث الأمم المتحدة حكومة العراق على تعديل قانون مكافحة الإرهاب على نحو يكفل تطبيق كافة الإجراءات القانونية الواجبة التي ينص عليها القانون الدولي والدستور العراقي تطبيقاً تاماً، وعلى نحو يكفل بوجه الخصوص احترام قرينة افتراض البراءة وضمان السماح لكل متهم بالاتصال بمحام بحسب الأصول والسماح لأفراد أسرته بزيارته، فضلاً عن إتاحة الفرصة للمتهمين بالحق بالدفاع عن أنفسهم في المحكمة. وحيثما يُزعم انتزاع الاعتراف بالإكراه أو من خلال سوء المعاملة أو التعذيب، فعلى المحكمة إجراء تحقيق شامل بمثل تلك الادعاءات قبل قبول الاعتراف كدليل. فقط بإدخال إصلاحات كتلك يمكننا التأكد أن من يكونون مذنبين بارتكاب أفعال إرهابية ويدانو ن ويعاقبون هم ليسوا أبرياء تسببنا في معاناتهم.
وعلى حكومة العراق، على سبيل الأولوية، أن تضمن تبعية كافة المعتقلات والسجون لوزارة العدل، فضلاً عن ذلك، لا بد من إنشاء دوائر خدمات إصلاحية محترفة بحيث تتبع أيضاً لسلطات وزارة العدل التي سيكون كادرها مسؤولاً مسؤولية تامة عن كل جانب من جوانب إدارة السجون والمعتقلات في أرجاء العراق. وأن لا تكون وحدات الجيش أو الشرطة مسؤولة عن أمن السجون أو عن أي جانب من جوانب النظام الجزائي العراقي.
ويبقى الاحترام التام لحريات التعبير والرأي والتجمع من المعضلات التي لا تزال قائمة في العراق. فبينما قد لا يتبع الإعلام أعلى المعايير الأخلاقية، فلا يمثل ذلك عذراً لتقييد الحقوق التي ذكرت آنفاً. ولا تقوم الديمقراطية إلا بوجود تعددية في الآراء حيثما تحترم وتحمى هذه التعددية. بعض الأجزاء في القانون الجنائي العراقي تسمح بالذم والقذف في بعض ظروف الجرائم الجنائية، تود الأمم المتحدة أن تحث حكومة العراق على إلغاء تلك الأحكام. وثمة مشروع قانون حول جرائم الإنترنت مطروح حالياً أمام البرلمان العراقي – يحتوي القانون على عدد من الأحكام التي تفرض قيوداً غير واجبة على حرية المواطنين العراقيين في تلقي المعلومات وتزويدها، بحيث لا تتواءم مع المعاهدات الدولية التي صادق عليها العراق. فضلاً عن ذلك، يتعين على الحكومة القيام بحملات للتوعية العامة لضمان ممارسة المواطنين العراقيين حريات الرأي والتعبير والتجمع باحترام وبسلام على نحو مسؤول دون الإخلال بالقوانين.
لا يزال العديد من المواطنين العراقيين يعانون من عدم حصولهم على التعليم والرعاية الصحية والسكن والفرص الاقتصادية. يتعين على الحكومة أن تقوم بإصلاحات قانونية ومؤسسية وفي مجال السياسات ،بما في ذلك تخصيص موارد كافية لضمان تقديم تلك الخدمات ليتاح لكافة المواطنين العراقيين الحصول على فرص عادلة ومتكافئة لتحقق إمكاناتها كاملة.
لا تزال النساء والأطفال وذوو الإعاقات وأفراد الجماعات الدينية والإثنية العراقية على تباينها وغيرها من الفئات في العراق تتعرض للتمييز وتجابه تحديات كبيرة تعيق مشاركتها مشاركة تامة ومتكافئة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فمثلاً، بعض أحكام القانون الجنائي العراقي يسمح بأن يكون الشرف عاملاً مخففاً للرجال الذين يمارسون العنف بحق النساء وأفراد العائلة؛ فلا بد من إلغاء مثل تلك الأحكام. على الحكومة، التعاون والتشاور مع المجتمع المدني، والقيام بإصلاحات قانونية ومؤسسية واستحداث سياسات بما في ذلك القيام بحملات إعلامية ترمي إلى رفع الوعي العام وإجراء تدريبات متخصصة للشرطة والمدعين والقضاة في ما يخص حقوق المرأة والطفل وذلك بغية ضمان الحد من العنف في المنازل وتلقي ضحايا هذا النوع من العنف الرعاية والدعم والحماية التي يستحقونها وأن تتم محاسبة من يرتكبون هذه الأفعال بموجب القانون. ولا بد من إيلاج قوانين وسياسات تكفل المشاركة التامة والمتكافئة للأقليات الدينية والإثنية وغيرها في القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر عليهم. كما لا بد من إيلاج قوانين وسياسات من شأنها التطبيق التام لمعاهدة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقات.
بالرغم من أن التحديات آنفة الذكر هامة جداً، بيد أنه لا يتعذر التصدي لها – وشهدت السنوات الأخيرة عدداً من التطورات الإيجابية. فقد أظهر العراق، حكومة وشعباً، التزاماً وعزماً حازمين في إيجاد حلول للتحديات التي تجابه البلاد – لبناء دولة عراقية ديمقراطية قائمة على أساس سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
في السبيل لإيجاد الحلول، من الجدير بمكان أن يُصغي من بالسلطة ويستجيبوا لأصوات الشعب العراقي – لا سيما أصوات الضعفاء والمغلوب على أمرهم ومن لا تُسمع أصواتهم بالعادة. وتمثل خطة العمل الوطنية المعنية بحقوق الإنسان، التي نحتفي بها اليوم، ما يمكن تحقيقه من خلال التشاور والإجماع بالرأي. لدى وضع مسودة الخطة، قامت وزارة حقوق الإنسان بالتشاور مع كافة قطاعات المجتمع العراقي، ومنهم: ممثلون عن الحكومة والبرلمان والنظام القضائي وأفراد متباينين من المجتمع المدني – لمناقشة توصيات مجلس حقوق الإنسان والبت في التشريعات الرئيسية والإصلاح في مجال السياسات والمؤسسات التي يحتاجها العراق لتولي تلك التوصيات وتنفيذها. وبالتالي فإن هذا الإنجاز إنجاز هام.
وعليه، أود أن أهنىء وزير حقوق الإنسان على الالتزام والعمل الدؤوب الذي أبداه هو والوزارة في التصدي للتحديات الخطيرة التي تجابه حقوق الإنسان في البلاد – وهو أمر تمثل في تبني وتنفيذ خطة العمل الوطنية المعنية بحقوق الإنسان. وبوسعكم الاطمئنان إلى أن الأمم المتحدة تقف إلى جانبكم لمد يد العون لكم لتحقيق أهدافكم وضمان أن حقوق الإنسان ليست مجرد حلم بعيد المنال، لكنها باتت واقعاً في حياة كل مواطن عراقي.
* نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، وهذه هي الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الذي عقدته وزارة حقوق الإنسان لإطلاق تقرير العام 2012 بشأن تنفيذ خطة العمل الوطنية لحقوق الإنسان.