يمكن أن نقسم هذه الحوارات إلى ثلاثة أنواع مختلفة حسب قدرتها على الاستجابة للقواعد والشروط التي بيناها في الأسبوع الماضي.
فهناك أولاً الحوار السياسي الذي يدور حول قضية آنية أو حدث قضية آنية أو حدث مفاجئ أو برنامج سياسي معلن، وفي هذه الحالة ترانا كثيراً ما نستمع إلى خطب مصغرة تدافع عن نظرة معينة دون أن يكون هناك تعارض حقيقي ودون تلاقح في الآراء. أما إذا كان الحوار يحوم حول قضية طرحها مسؤول سياسي بحضوره فإن الحوار سينقلب إلى محاورة فيها المُسائِل والمجيب وليس فيها تحاور مطلقاً. ولن نطيل الحديث في هذا الصنف من الحوار لأن فائدتها تكاد تكون عديمة باعتبار أن الحوافز والمثيرات وشد الانتباه وحث السامع والمشاهد على التفكير والتعلم كلها غائبة عن تقنيات مثل هذه البرامج، ولذلك قامت التلفزيونات الغربية بحذفها وتعويضها ببرامج حركية تتفاعل فيها الآراء وتتناقض لتشد الانتباه فتكون التأثيرات التي يمكن أن يحدثها الحوار ناجعة وفاعلة ويكون الحوار منتجاً للمعنى.
على كل حال، فهي لا تستجيب لمقياس الحرية ولا تعتمد البعد الجمالي والأخلاقي للحوار، كما لا تحاول أن تعتمد ما يسمى ببيداغوجية الاتصال. هي كخطبة غورجياس فاشلة ولا يمكن أن تقنع الجميع لا سيما في مجتمع تحركه المعرفة ونتائجها.
وفي بعض الفضائيات، قد نجد ما يشبه التحاور السياسي إلا أنها تأتي غالباً تحت وطأة الانفعال الأيديولوجي والوجدان العاطفي، فتبتعد عن التحاور وتقترب من الخطب الصغرى كلّ يريد تمرير قناعاته دون أن ينصت حقيقة الى رأي الآخر.
أما النمط الثاني وهو الأهم فيتمثل في : الحوارات ذات الطابع الفكري والثقافي حيث يكون التحاور أكثر تحرراً وتعقلاً ويستجيب لقدر وفير من أخلاقيات الحوار وتقنياته، وقد نجد فيها أحياناً عند المنشطين والمقدمين الإعلاميين مهنية عالية وسيطرة ذكية على التقنيات الاتصالية. ولكننا ومع ذلك، قد نلاحظ تصنعاً في محاولة تكريس الاختلاف والتناقض مع استعمال التشنج المصطنع لجلب الانتباه وضمان نوع من المصداقية والموضوعية والنزاهة. ولا أريد هنا أن أذكر أمثلة على ذلك، ولكنني ألاحظ فقط أن في هذه الحوارات الفكرية محاولة جادة لتوخي التنوع الفكري والاختلاف في الآراء. ولعلها بداية الانفتاح الذي قد يهم أحياناً القضايا السياسية العربية. وهناك في بعض تلك البرامج محاولات جريئة وغير مصطنعة للمناقشة العلنية في بعض القضايا المصيرية كالأوضاع الداخلية في لبنان أو القضية الفلسطينية العربية وغيرها.
وحتى نتبين أهمية هذه الإشكالية بالذات، لا بد من الانتباه إلى أن الساحة العمومية تتجه شيئاً فشيئاً نحو الفضاء التلفزي لأن تكون ساحة رقمية إعلامية. وإذا علمنا أن هذه الساحة هي قوام كل مجتمع مدني فإننا سنقتنع بأن تحول المجتمعات العربية من الصيغة السياسية المهيمنة الى الصيغة المدنية المنشودة سيحدث حتماً عبر تطوير هذه الحوارات الإعلامية ذات الأبعاد الفكرية والثقافية.
والملاحظ أن بروز "المدني" وتركيز شرعيته على المجتمع هو أساس التحديث وفي حقيقة الأمر، فإن مبدأ الحرية يقودنا أساسا إلى تصور المدني من حيث هو نتيجة حتمية لتفاعل شائك بين الفردانية والاجتماعية، حيث لن يضمحل الفرد داخل مستلزمات المجتمع السياسية، ولن يغيب الوجود الاجتماعي المشترك عن الفعل الفردي والحق الإنساني.
ولعل ما يجب الانتباه إليه هو أن مجتمعاتنا العربية ما زالت تولد السياسي، وما زالت تولد السياسي، وما زالت السلطة فيها تركز على شبكة هائلة من الممارسات السياسية المتعددة، بحيث سيكون السوي المصطنع الذي قد تمت صناعته داخل الأسرة وفي المدارس وتحت وطأة الأيديولوجيات الرسمية هو المواطن الوحيد الممكن بالنسبة إليها وسيكون حق الاختلاف والتعارض ضعيفاً في هذه المجتمعات السياسية.
ومهما يكن من أمر، فإن ما ينقص هذه الحوارات هو ابتعادها عن الالتزام الظاهر بأيديولوجيات معينة قد تأخذ أحياناً صبغة نضالية تضر نوعاً ما بمصداقية الحوار وبشروطه. وكذلك أحياناً نشمُّ من الحوار وجود أفكار مسبقة والتزامات غير معلنة وأيديولوجيات خفية ذلك لا يعني أن يتوخى المرء في الحوارات الاستقلالية الكاملة، ولا يعني ذلك ان ننحاز عن قناعاتنا ونترك جانباً نضالنا والتزاماتنا الحياتية. فذلك أمر يستحيل تحقيقه حتى وان كان شرطاً من شروط موضوعية المقاربات العلمية والفكرية. فالمطلوب في مثل هذه الحوارات هو تعقل الخلاق والمبدع، بحيث سيكون العقل هنا هو القاسم المشترك والفعال بين المحاورين. غير أننا نعتبر العقل التحاوري عقلاً منفتحاً على التطبيق اولاً ومنفتحاً على الوجدان والخيال والعواطف ثانياً، لذلك لا يكفي أن يكون الحوار دقيقاً صارماً وبرهانياً، إذ لا بد من أن ينتج هذا التعقل علاقة ما بين المحاورين قد تعيد إنتاج المعنى وقد تستأنف البحث في قضايا قد يلهمها الحوار. فالحوار تعقل وتعايش وتواصل تقدح منه إمكانات عجيبة وتتولد به أفكار جديدة وبديلة. فإذا كان التعقل هو سيد الموقف فستكون نجاعة هذه الأفكار أكبر وفائدتها أكثر.
أما النصف الثالث للحوار حالياً فهو المهيمن حاليا على جل القنوات العربية وهو الذي يأخذ غالباً صبغة السؤال فالجواب دون التعمق في القضايا خوفاً من الرقابة أحياناً واستجابة للرقابة الذاتية أحيانا أخرى، قد يخضع ذلك لشخصية المحاور الذي يحاول تمرير الحوار دون مشاكل تذكر قد تلحق الضرر بوظيفته أو بسمعته أو بالتزاماته.
فالسطحية هي الحل الأجدر في هذه الحالة، وشخصياً أقحم ايضاً في هذا الصنف الحوار الاستفزازي الآخر وجعله في منزلة المتهم وحصره داخل منظومة الدفاع عن النفس.
ولعل في ذلك سيكون البرنامج جذاباً وفنانا في آن، دون أن يكون هناك عمق وتعمق او إنتاج حقيقي للمعنى، ومهما يكن من أمر، فإن ثقافة الحوار في الإذاعات والتلفزيونات العربية بدأت تتطور شيئاً فشيئاً رغم المعوقات الجغراسياسية التي قد تقلل من قوة ارتكازها في المجتمعات العربية المتحولة، وفي قناعتي انه لا مناص من هذا التطوير لان هذه الثقافة كما بيّنا هي سمة العولمة الحالية وهي الصبغة التي قد يأخذها المجتمع المدني العربي إذا توفرت له الإمكانات الفكرية والسياسية المدعمة للمتعقل والحرية والتسامح والاحترام.
فالساحة العمومية كما بيّن الفيلسوف الألماني هابرماس هي الأس الأول لكل ديمقراطية منشودة، لأنها ستضمن لي مناقشة كل الأفكار المطروحة ومناقضتها ومقارعتها بالحجة والدليل حتى يتولد من كل ذلك، المعنى الحقيقي والاتجاه الصحيح.
كذلك ستضمن لي هذه الساحة العمومية المشاركة الفعالة للمواطن حتى يدلي برأيه بصفة مباشرة ودون حاجة إلى وسائط دون خوف من سلطة اعتباطية وذلك حسب قوانين مضبوطة كان هو طرفاً في إنشائها.
ولعل البرامج الحوارية لا سيما تلك التي تنتمي إلى الصنف الثاني هي المعوضة – في الوقت الحالي - للساحة العمومية، بما أنها تضمن نوعاً من مناقشة الآراء والأفكار، وبما أنها تفتح المجال للمواطن حتى يشارك في ذلك، ولعلها ايضاً بداية إطلال الحريات الاجتماعية المنشودة رغم أننا نعرف أنها ما زالت (تجريبية) تخضع لضغوطات وموانع متعددة، وعليها الآن أن تبني التحاور على أخلاقيات التعقل والحرية والتسامح.
هكذا إذن لا بد من تشجيع ثقافة الحوار في برامج الإذاعات والتلفزيونات العربية لأنها ستولد المعنى وستقود إلى تطوير المواطنة في ربوع مجتمعاتنا وستبني حداثة جادة لا تتضارب مع تأصيل كياننا ولا تختلف مع مقاصد ثقافتنا، فهي التي ستحدث توازناً بين كل معطيات الحداثة بلا استثناء، فقد انتبه إلى ظاهرة التوازن هذه الفيلسوف الألماني كانط في أواخر القرن الثامن عشر، فبالنسبة إليه يجب أن يكون الإنسان في المجتمع المتوازن مثقفاً ومتحضراً ومختلفاً، ويرى أن الإنسان – في عصره - لم يبلغ بعد مصيره ولم تكتمل فيه الإنسانية، لأنه وان بدا وكأنه قد تحصل على معطيات علمية وأدبية وإبداعية تجعل منه انساناً مثقفاً، إلا انه لم يتمدن إلا بجزء يصل إلى نصف المبتغى، ولم يتخلق في الجملة، فإذا كانت العلوم قد تطورت وأصبحنا نتعلم بعضنا من بعض بحيث كثرت الحاجات وتضخمت كما تكاثرت المعاناة واللامساواة والأتعاب نتيجة ذلك، فانه لم ينتج تمدناً ولم يخلق ما يمكن أن نسميه بالمواطن الحقيقي.
ثقافة الحوار فــي الإذاعات والتلفزيونات العربية
نشر في: 19 ديسمبر, 2012: 08:00 م