علي حسن الفوازيبدو ان ما يجري من تحولات عميقة في الشرق الأوسط والعالم العربي، تجاوزت ما هو عفوي في أنماطها الثورية والاجتماعية، تجاوز حتى الحدود المسموح لها بالوصول إليها، قبل أن تتحول إلى ثورات عميقة وطاردة لأشكال الصراع التقليدية، والتي يمكن ان تهدد القلاع والحصون والممالك النفطية والسياسية وطرق الحرير، حتى لا يكون الطريق مكشوفا ومباحا للوصول الى دولة(اورشليم)، او باعثا على إنتاج ثوار من العيار الثقيل، على طريقة تشي جيفارا، او حتى مجالات سياسية قد تنمي الإحساس بقوة التحول، والرغبة في صناعة ديمقراطيات خارجة على المواصفات الأمريكية.
معطى هذه التحولات بات خاضعا لتجاذبات مثيرة، بعضها ينسحب الى زحمة التحليلات السياسية للظواهر والدوافع التي أسهمت في تشكيل ملامح ما رافقها من تغايرات ومفارقات، بكل استحقاقاتها الواقعية، وما يرتبط بها من خلفيات، ولعل من اكثر العناوين إثارة في هذا المعطى هو طبيعة هذه التحولات وخصوصية أسئلتها، وهل هي ثورات حقيقية؟ ومن يقف خلفها؟ والى أيّ مدى ستواصل زحفها الشعبي المتفجر؟ وهل يمكن الاستفادة مما تحقق في مصر وتونس من دروس وعبر؟ وهل ان هذا المتحقق في هاتين الدولتين يمكنه ان يصنع ظواهر سياسية فاعلة وقارّة لشكل الدولة الديمقراطية والعادلة وشكل المجتمع الآمن؟ وهل يمكنه أيضاً ان يؤطر العملية السياسية الجديدة فيهما بإطار يستوعب طبائع الحراك السياسي المتفجر، ويضبط موازين الإشكالات والتعقيدات الاقتصادية والهوياتية التي تعيشها، خاصة الدولة المصرية ذات العمق التاريخي والديموغرافي في المنطقة؟ ان ظواهر الثورات الشعبية في المنطقة اضحت تمثل ظاهرة حقيقية لاحتجاج سياسي وأخلاقي على ما يجري في الواقع، وعلى الأدوار السيئة التي قامت بها أنماط السلطات المحكومة بالعسكر والادلجة والقوة الأمنية، والتي صنعت طوال أكثر من نصف قرن دولا مشوهة، وحشودا من الفقراء والجياع والمؤسسات الهشة، فضلا عن هشاشة البنى التنموية، وضآلة القيمة الحضارية والمدنية لمفهوم الدولة والعدل الاجتماعي والحقوق والحريات والمساواة وقيم السلم الأهلي، مقابل التغوّل غير العقلاني لصناعة نموذج السلطة القامعة والمهيمنة بنزوعها الابوي، المحمول على اواهام ولي الامر والتضليل بالمقدس، والتي انكشف بريقها الخادع مع اول اصطدام حقيقي مع المطالب الحقوقية التي تطالب بها قطاعات واسعة من الجمهور، إذ أن هذا الجمهور لم يعد هو الجمهور الخاضع لشعارات الحشد، والفرقة الناجية، بقدر ما أضحى جمهورا يملك وعيا استثنائيا بأنسنة الدولة والحقوق والحريات، وان طرائق الحكام والملوك التي كانت تنهب ثروات البلاد والعباد لم تعد تطوى في السر، وبعيدة عن الأنظار، مثلما لم يعد هذا الجمهور يؤمن بنظرية نصف الإشباع، مقابل الولاء، أو نصف الحرية مقابل نصف الاستبداد، ولم يعد يقتنع بان دم الملوك ازرق وان دمه (بمبي) واحسب ان ما جرى ومايجري الان في دول كانت تراهن على قوة امنها في الداخل مثل مصر وتونس والسعودية والبحرين، يكشف عن هول هذه الخدعة، وان فضاضة السلوك المنافي لأبسط حقوق الإنسان وآدميته يكشف هو الآخر عن جوهر أزمة هذه السلطات التي باتت الآن عارية أمام منظمات حقوق الانسان الدولية، وامام وسائل الإعلام، وأمام جمهورها الذي فقد شرط ولائه القديم للحاكم والسلطة والايديولوجيا ونظرية الدم الأزرق..rnدولة الاتحاد السوفيتي والدولة العربية..أن القوة التي خرج بها الاتحاد السوفيتي مابعد الحرب العالمية الثانية، وضعته في مصاف الدول الصانعة للحريات الكونية، والذي أسهم في القضاء على النازية، وتحقيق حلم الشعوب في البحث عن جغرافيا آمنة للسلام والإشباع والرفاهية، ولكن طبيعة النظام تحمل معها عوامل إحباطها، فليس الماركسية هي التي أسقطت دولة غورباتشوف، وإنما القراءة المشوهة لهذه النظرية وترحيلها السيّئ من الفلسفي والمعرفي الإنساني الى السياسي والايديولوجي الضيقين، هو العامل القهري الذي صنع لها أبطالاً ورجال امن وعسكرتاريا وحروباً باردة وساخنة وأزمات عميقة وصراعات داخلية أكلت روح الفكرة، وجردت ثياب الثوري لتلبسه ثياب الجنرال، وهذا ما أسهم في صناعة النهاية التراجيدية للدولة الكبرى، وبالتالي وضع الصراع الكوني أمام مفترق طرق، واذ نستعيد هذا النموذج في التعاطي مع مفهوم الدولة العربية التي ظل يحكمها الاستبداد، والتي جردت هي الأخرى أحلام الناس الطيبين وأخذتهم الى الجغرافيا الواهمة، مثلما أعطت للملك والحاكم جرعات عالية من الأوهام بان ما يحدث هو صناعة منزلية، وان الدول هي معسكر خلفي للبيت العائلي، هذه الأوهام تشبه إيديولوجيا العسكرة عند حكام الاتحاد السوفيتي السابق الذين اكتشفوا متأخرين ان النار كانت تغلي (القدر) خاليا كما قال غورباتشوف ذاته، وان لاشيء يعصم من مواجهة الناس الذين أدركوا أيضاً ا ان السلطة كانت تخدعهم بالأوهام. نموذج السلطة العربية كان هو الآخر يطبخ الهواء، ويصنع السجون اكثر مما يصنع المدارس، ويصنع من الأوهام والحشود والمريدين أكثر مما يصنع من حقول الحنطة، وهذه المعادلة المختلة هي التي صنعت الثقب العميق في (بيت الدمية) والتي فجرت احتجاجا شعبيا وغضبا مكبوتا، وسيلا بات هو الأكثر اقتحاماً لحصون الرمل التي تتحصن بها الدولة القديمة. البعض من أصحاب هذا النموذج حاول استدراك ما يجري فأفرط في تضخيم البناء الأمني لدولته الأمنية أصلا!! وراح يصطنع أعداء من نوع آخر، أعداء طائفيين وأعداء امبرياليين، وأعداء شعراء، وأعداء
الثورات الشعبية العربية..الخرائط والأسرار والحروب المحتملة
نشر في: 22 مايو, 2011: 05:48 م