القاهرة / خاص بالمدى
تباينت ردود الأفعال وتعددت القراءات للنتائج غير الرسمية للاستفتاء على مشروع الدستور الذي صاغته الجمعية التأسيسية التي هيمنت عليها جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة وحلفاؤها من أحزاب تيار الإسلام السياسي ، ودعا الرئيس د. محمد مرسي الناخبين للتصويت عليه بعد 15 يوماً من التصويت عليه بالإجماع في الجمعية التأسيسية .
لقد تم الاستفتاء ( المرحلة الأولى) يوم السبت الماضى في عشر محافظات . وجاءت النتائج في مجملها لصالح الموافقة حيث صوت بـ "نعم" 4 ملايين و597 ألفاً و382 شخصاً بنسبة 5ر56% ، مقابل تصويت 3 ملايين و537 ألفاً و264 شخصاً بـ "لا" بنسبة 5ر43% . ورغم أن محافظتين فقط صوتنا بلا بينما صوتت ثمانية محافظات بنعم ، إلا أن القراءة التفصيلية قد تعني استنتاجات مغايرة .
فالقاهرة عاصمة الجمهورية ومركز السلطة وأكثر المدن ازدحاماً بالسكان (8 ملايين و900 ألف نسمة) يمثلون 8ر9% من السكان (اجمالي السكان 86 مليون نسمة) صوتت ضد الدستور الاخواني السلفي بنسبة 9ر56% ( مليوناً و256 ألفاً قالوا لا مقابل 950 ألفاً و532 قالوا نعم بنسبة 08ر43%) . وصوتت معها محافظة الغربية التي توجد بها مدينة المحلة الكبرى قلعة صناعة النسيج ومركز الإضرابات العمالية الكبرى في التاريخ المصري .
أما المحافظات التي صوتت بنعم على الدستور فخمس منها تقع في سيناء وصعيد مصر . ومحافظات الصعيد الثلاث هي - بالصدفة - أفقر ثلاث محافظات في مصر . فطبقاً للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ، فأعلى نسبة للسكان الفقراء في مصر هي أسيوط (69% من السكان تحت خط الفقر) تليها سوهاج (59% تحت خط الفقر) فأسوان (54% تحت خط الفقر) . وكان التصويت بنعم للدستور في هذه المحافظات مرتفعاً للغاية . ففي سوهاج صوت 469 ألفاً و493 ناخباً بنسبة (8ر78% بنعم) تليها أسيوط (449 ألفاً و431 ناخب بنسبة 08ر76%) فأسوان (149 ألفاً و20 ناخبا بنسبة 22ر75%) . وفي محافظة شمال سيناء صوت بنعم 50 ألفاً و924 ناخباً بنسبة 30ر78% ، وفي جنوب سيناء صوت بنعم 11 ألفاً و697 ناخباً بنسبة 43ر63% .
ودلالة هذه الأرقام واضحة . فالمحافظات الأفقر خضعت لتأثير المال واستخدام الدين التي استخدمها حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين بصورة واسعة . وفي سيناء لعبت سيطرة مشايخ رؤساء القبائل على الناخبين وحرصهم على تأييد الحاكم أملا في حل مشاكلهم دوراً في ارتفاع نسبة المصوتين بنعم .
ومع التسليم بهذه الحقائق ، يظل هناك تساؤل حول تصويت أسوان لصالح الدستور . فالمعروف أن جماعة الاخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي ضعيف للغاية في محافظة أسوان ، بينما يتمتع التيار الناصري وحزب التجمع واليسار عامة بشعبية واسعة في المحافظة . وفى انتخابات مجلس الشعب 2011 أشارت النتائج الى تعادل نفوذ تيار الإسلام السياسي والأحزاب والقوى الديمقراطية والمدنية ، حيث فاز ثلاثة من المنتمين للتيار الأول (الحرية والعدالة - النور - البناء والتنمية) وثلاثة ينتمون للتيار الثانى (التجمع- الوفد - مستقل) .
ومن الواضح أن التزوير كان واسعا للغاية في أسوان ، فطبقاً للمراقبين في البيانات الأولى بعد قفل باب التصويت فى الساعة الحادية عشر مساء كانت تشير إلى انخفاض عدد المصوتين بصورة ملفتة بحيث لا يتجاوز 26 ألف في مراكز أسوان الخمس ، قفز فجأة في الرابعة صباحاً إلى 198 ألفاً و107 ناخبين .
وقد لاحظ المراقبون أيضاً تقاعس أعضاء وأنصار جبهة الإنقاذ الوطني عن التصويت ، وكشفوا عن وجود اتفاق بين قيادات نوبية من المنتمين للحزب الوطني سابقاً ، واحد قيادات حزب الحرية والعدالة أدى للتصويت بنعم من جانب قطاع من النوبيين .
وقضية التزوير ليست ظاهرة خاصة بأسوان فقط ، بل تكاد تكون ظاهرة عامة في المحافظات العشر بدرجات متفاوتة .
وقد رصدت عدد من المنظمات الحقوقية قائمة طويلة في المخالفات وصولاً إلى التزوير ، كما جاءت في بيان "الائتلاف المستقل لمراقبة الانتخابات" والذي يضم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية ومركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية (أكت) ، و "المرصد الوطني لنزاهة الانتخابات" ، و"مركز سواسية لحقوق الإنسان ومناهضة التمييز" ، وبيان 6 منظمات حقوقية هي "المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، والمجموعة المتحدة للمحامين والمستشارين القانونيين ، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان ، وحركة شايفينكم .." الذي صدر ظهر الأحد تحت عنوان "رغم الثورة .. استفتاء على الطريقة المباركية" .
وأعلنت "الجبهة الوطنية للإنقاذ" أن النسبة الحقيقية للذين صوتوا بلا بلغت 66% ولكن تم تزوير النتيجة .
ورصدت هذه التقارير جميعاً أشكال التدخل والتزييف والخروقات المختلفة بداية من غياب الاشراف القضائي الكامل على لجان الاستفتاء . ففي ضوء مقاطعة 90% من القضاة ووكلاء النيابة للاستفتاء ، أكتشف المراقبون والناخبون عدم وجود قضاة أو تولى موظفين في النيابة العامة رئاسة لجان الانتخابات في عدد كبير من اللجان ، ومشاركة قضاة من أعضاء الحركة "قضاة من أجل مصر" في الإشراف ورئاسة لجان الاستفتاء ، وذلك بالمخالفة لما كان قد سبق إعلانه من رئيس التفتيش القضائي من أنه لم يتم السماح لهم بالمشاركة في ضوء ما أفصحت عنه تلك الحركة من تأييدها للدستور الجديد محل الاستفتاء ، وعلاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين ، وشارك عدد من محامى "هيئة قضايا الدولة" في رئاسة اللجان رغم أنهم لم يقسموا اليمين القانونية لتولى مهامهم . ووقعت سلسلة من الممارسات الشاذة من بعض من تولوا رئاسة اللجان كقضاة ، مثل تعدي رئيسة لجان بمدرسة الطبري (مصر الجديدة) باللفظ على الناخبين وإغلاقها للجنة ، وقيام قاض بتمزيق ورقة التصويت لناخبه (وهي عضوه بالائتلاف المستقل لمراقبة الانتخابات) عندما طلبت التحقيق مع شخصيته ، وقيام قاض بتسويد ورقة في لجنة بمحافظة الشرقية بنعم في بطاقات التصويت ، وتوجيه قاض في لجنة ببلبيس ( الشرقية) لأكثر من 100 ناخب للتصويت بنعم ورده على اعتراض المراقبين قائلاً "أعلى ما في خيلكم أركبوه" ، وقيام قاض في المعادي بفتح صندوق الاقتراع بعد بدء التصويت .
ومن أشكال التزوير والخروقات الأخرى ، منح المجلس القومي لحقوق الإنسان برئاسة المستشار حسام الغرياني 35 ألف تصريح مراقبة لأعضاء جماعة الإخوان ، ورفض منحها لأعضاء المنظمات الحقوقية ، ووجود بطاقات للتصويت غير مختومة بختم اللجنة العليا للانتخابات ، وحبر فوسفوري يتم إزالته بسهولة ، ومنع الصحفيين والإعلاميين ومندوبي منظمات حقوق الإنسان من المتابعة داخل الجان ، ووجود سلفيين يتولون العملية الإدارية داخل اللجان ، وحشد جماعة الإخوان مجموعة من الأطفال يرتدون زياً موحداً ويحملون أعلاماً مكتوباً عليها "نعم" ، وعدم وجود أسماء الناخبين ، واغلاق بعض اللجان قبل الموعد المحدد بأربع ساعات رغم وجود مئات الناخبين أمام اللجنة .
ولا يمكن تجاهل المناخ والأوضاع التي جرى الاستفتاء في ظلها .
لقد مارست جماعة الإسلام السياسي بما في ذلك الإخوان والسلفيين وأنصار حازم أبو إسماعيل أشكالاً مختلفة من العنف .
فتعرضت المحكمة الدستورية العليا - ومازالت - للحصار ومنع قضاتها من الدخول للمحكمة ، مما أدى لتأجيل نظر كافة القضايا لأجل غير مسمى . ووقفت أجهزة الأمن - ماتزال - متفرجة على انهيار دولة القانون فى مصر على يد بلطجية وميليشيات تيار الإسلام السياسي !
وتعرض المتظاهرون أمام قصر الاتحادية لهجوم مباغت من الإخوان المسلمين واعتداء بالضرب وإلقاء القبض على ما يزيد عن 150 منهم وتعذيبهم بوحشية أمام بوابة رئيس الجمهورية . وعندما اكتشفوا أن الحسيني أبو ضيف قام بتصوير جرائمهم خلال التغطية الصحفية لأحداث الاتحادية ، اتخذوا قرار بدم بارد باغتياله فسقط في دمائه وانتزعوا آلة التصوير التي تسجل كل ما ارتكبوه من تعذيب وحشي .
وقام أنصار حازم صلاح أبو إسماعيل بحصار مدينة الإنتاج الاعلامي ، ثم قاموا باقتحام حزب الوفد ومقر جريدة الوفد وإشعال النيران وتهشيم عدد من السيارات المتواجدة بمحيط الحزب وتحطيم بعض النوافذ وإطلاق رش خرطوش وشماريخ . كما ألقت مباحث القاهرة القبض على الحارس الشخصي لخيرت الشاطر أمام إحدى لجان القاهرة الجديدة أثناء الاستفتاء وبحوزته سلاح ناري ( طبنجة ) وخمس طلقات نارية .
والى جانب العنف المادي كان هناك عنف معنوي ومحاولات للتأثر على الناخبين باستخدام الدين والمال . فقامت جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة بتوزيع مواد تموينية خلال حملات "طرق الأبواب" تضم سكر وزيت وسمن وشاي ومكرونة وأرز مقابل الوعد بالتصويت بنعم ، ومدعين أن من سيصوت بلا خارج عن الإسلام. وان النصارى فقط هم من يرفضون الدستور الجديد .
كما قام أعضاء حزب النور بتوزيع اسطوانات البوتاجاز على المواطنين بسعرها الحقيقي أي خمسة جنيهات بدلاً من 30 جنيها .
ودخل الشيخ القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على الخط ، فحذر أن رفض الدستور والتصويت بلا سيؤدي لخسارة مصر لاستثمارات قطرية تصل الى 20 مليار دولار !
وأصدرت الجماعة السلفية الجهادية بسيناء بياناً يوم الجمعة ، كفرت فيه من يوافق على الدستور الجديد لوجود مواد "علمانية وليس لها علاقة بالشريعة الإسلامية" .
ورغم كل هذا الجهود وجه الشعب المصري لطمة قاسية لكل هؤلاء ، وصوت - رغم التزوير - بنسبة كبيرة وفارق ضئيل بلا على الدستور الاخواني السلفي فلم يتجاوز الفارق بين الذين قالوا نعم (5ر56%) والذين قالوا لا (5ر43%) لم يتجاوز 13% . ولعبت النساء دوراً محورياً في الاستفتاء والتصويت بلا للدستور الذي يميز ضد النساء بصورة فجة . فطوابير النساء من مختلف الطبقات الاجتماعية أمام اللجان والانتظار ساعات من نساء كبيرات السن وأمهات يحملن أطفالهن كان أمراً ملفتاً ، خاصة مع إصرار العديد من النساء على إعلان عزمهن على التصويت بلا ، وهتافهن ضد خيرت الشاطر "يسقط يسقط حكم المرشد" وضد صبحي صالح . إن درس استفتاء السبت في المحافظات العشر ، يقول لنا ان الإقبال على التصويت يوم السبت القادم والتصدي بقوة لمحاولات التزوير ، كفيل بإسقاط الدستور السلفي الاخواني ، وفتح صفحة جديدة في نضال المصريين - نساء ورجالا - من دولة مدنية ديمقراطية حديثة في مصر .