سلوى جراححين نشرت جريدة المدى، مشكورة قبل أيام مقالاً لي عن القراءة الخلدونية، وجدت تعليقاً على مقالي، وهو شيء لم أصادفه من قبل. أقول الحق فرحت بالتعليق، ثم تضاعفت الفرحة حين قرأت اسم صاحب هذا التعليق، محمد سعيد الصكار، الذي أضاف معلومات مهمة عن تاريخ كتاب تعليم القراءة العتيد. قرأت المعلومات وعدت لفرحتي، الصكار يعلق على ما كتبت، يا للصدفة فقد كنت أنوي أن أجعله أي محمد سعيد الصكار، مع حفظ الألقاب، مادة لمقالتي القادمة.
فقد زار الصكار لندن مؤخراً وأهداني نسخة من كتابه الأنيق " من رسائل الأدباء". غلاف الكتاب الرمادي لوحة "صكارية" تتعانق فيها الحروف لتدور حولها أسماء أصحاب الرسائل، بلند الحيدري، عبد الرحمن منيف، رشدي العامل، غائب طعمة فرمان، وهادي العلوي، خمسة أصدقاء من دنيا المبدعين شعراً ورواية، والكتاب يضم بعض رسائل هؤلاء للصكار وبعضاً من رسائله لهم. رسائل معاناة المبدع في عالم قاس عالم المرض والحاجة، والبحث الدائم عن الأفكار، عالم تداول الفكر والحزن، عالم استمرار العملية الإبداعية. الكتاب الذي صدر عن المؤسسة العربية للطباعة والنشر في بيروت عام 2009، يبدأ بهادي العلوي هذا المَعلم الثقافي العراقي المهم بكتاباته المتنوعة من معاجمه الثلاثة المستطرف الجديد، الى العديد من المؤلفات عن المرأة وحقوقها، إلى تحديه السافر لصحة فكرة الإفتاء بقتل من يخرج عن الدين. لعل هذا هو السر في أن هادي العلوي عاش حياته منفياً عن العراق بين دمشق والصين وتوفي في دمشق عام 1998.يقول في إحدى رسائله " عصف بي الشوق إليك، وهو شوق لا أظنك تستقله، رغم صمتي الذي طال ولم يطل." ويدور الحديث عن الغربة وما يكتب وما يفكر خاصة في تفاصيل مجهولات اللغة العربية. يتبادلان الرسائل والنقد والأفكار حتى لتشعر انك تقرأ أعمالاً لهادي العلوي وتستوعب بعض غوامضها.. ثم يأتي دور بلند الحيدري، الشاعر المجدد وما تبادلاه من هموم نشر الدواوين الشعرية، الصكار في البصرة وبلند في بيروت في أواخر الستينيات. ثم يجيء دور غائب طعمة فرمان الذي يشكو مر الشكوى من المرض وآلامه ومن الغربة في روسيا وكيف كادت غربته أن تفك عرى علاقته باللغة العربية. فيكتب غائب طعمة فرمان معتذراً عن "ركاكة" اللغة التي استعملها في روايته الخالدة "النخلة والجيران" يكتب بحرية وطلاقة:" أنا متفق معك في رداءة لغة النخلة والجيران، ولعلك واجد أو وجدت، في خمسة أصوات صورة أردأ لآثار الغربة الطويلة أنا مقر بذلك" هكذا يتراسل المبدعون دون أقنعة أو مديح للذات أو للآخر ليرى كل منهما نفسه في مرآة الآخر.عبد الرحمن منيف، هو الآخر مريض في باريس، وقد حولوه على حد تعبيره، إلى حقل تجارب طبية فمل الطب والتطبب. هو يتحدث عن رواية جديدة " الغزلان تبكي وهي تموت" رواية لم تنشر لكنها شغلت فكر ووجدان عبد الرحمن منيف طويلاً. الصديق الخامس هو الشاعر رشدي العامل الشيوعي الذي لم يغادر العراق في السبعينيات، ورغم انه ترك دواوين عديدة إلا انه مات فقيراً معدماً. رشدي العامل يكتب للصكار كلمة على مكتبه حين لا يجده:"مررت فلم أجدك أنا بشوق لعينيك الكئيبتين مع حبي" الرسائل تحكي الكثير عن أصحابها تغوص في أعماقهم وتروي أحلامهم حتى التي لا يبوحون بمضامينها. والكلمات القليلة التي يكتبونها تحسن وصف ما عانوه وأحبوه وخافوه، لكن هذه المشاعر بمجموعها وكل ما تحمل من جماليات، قد تبدو بعيدة بعض الشيء عن عالم اليوم الذي نعيشه. فلم يعد أحد يكتب الرسائل. قد يكتبون الايميلات ولكن لا يكتبون الرسائل على الورق الأبيض والأزرق والملون. بالمناسبة الكتاب يقدم نماذج لخط يد الأصدقاء الخمسة، أما خط الصكار فكلنا يعرف جماله. المهم من يحتفظ بإيميلات الكتاب اليوم وكيف تجمع؟ فلا شيء يمكن جمعه كالأوراق ولا شيء يبقى مثلها. قد تغير لونها ورائحتها لكنها تبقى رزمة من الرسائل، رسائل حب ورسائل الأصدقاء نعيد قراءتها مرات قبل أن نعيدها لمغلفها من جديد. الكومبيوتر رغم كل إبداعاته إن سرق منك أو ضاع فقدت كل ما عليه من رسائل.في الفترة الأخيرة نصحني كثيرون أن أعيد فتح الفيس بوك اللعين فتحته وزينته بصورة من صوري ودرت فيه أبحث عما أقول وأفعل فلم أجد ما يستحق القول أو الفعل. هي كلمات مختصرة يكتبها "الأصدقاء" للمتعة والتسلية الكلمات العربية تكتب بحروف اللغات الأوروبية باختصار شديد، هاي باي لا نقاش ولا بوح ولا شكوى. يقولون إن جيل الفيس بوك غير معالم العالم العربي، أقول هم جيل مختلف تماماً عن جيل هاي وباي وياي. ألف تحية لهم وكل الاحترام، وهم بلا شك غيروا الكثير، لكن رسائل الورق يبقى لها سحرها حتى لو كانت كما تقول فيروز :"كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا كتبنا مية مكتوب لهلق ما جاوبنا.
كتبوا وما كتبنا
نشر في: 25 مايو, 2011: 05:30 م