أوس عز الدين عباس التفكير والتأمل حول المستقبل يبدآن إلى حد كبير من خلال إعادة النظر إلى الماضي ، أي ماضي المجتمع والثقافة ، للتعرف على القوى والعوامل التي تساعد على استمرار وجود ذلك المجتمع وتلك الثقافة ، وهما يلعبان دورا أساسيا في نموهما وتطورهما ، وهما يهيئان الأرضية التي ترتكز عليها الأوضاع الجديدة
والناجمة عن تلك التطورات ، وكانت الطاقة دائما إحدى هذه القوى والعناصر التي انتبه إليها كثير من العلماء والمفكرين ، فرصدوا أشكال الطاقة المتغيرة على مر العصور وعلاقتها بدرجة التخلف والتقدم وأسلوب الحياة المرتبط بتلك الأشكال ، وذلك على اعتبار إن موضوع الطاقة هو موضوع اجتماعي وثقافي لارتباطه بحياة الفرد والمجتمع .وقد انتبه علماء الأنثروبولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر إلى هذه العلاقة ، وأدركوا عمق العلاقة بين توفير الطاقة واستهلاكها من ناحية ، والمستوى التكنولوجي لها من الناحية الثانية ، ودرجة التقدم الحضاري لها من الناحية الثالثة ، فالطاقة والتكنولوجيا تتداخلان معا في علاقة ترابط وتفاعل قوية ، على اعتبار إن التكنولوجيا تعتمد كليا على الطاقة ، وإن عدم السيطرة على الطاقة وتوجيهها لمصلحة المجتمع قد تكون لها آثار سيئة ، ويكفينا أن نتذكر كيف إن ارتفاع درجة الحرارة التي اجتاحت أوروبا في عام ( 2003 ) قد أدت إلى وفاة حوالي (52000 ) شخص نتيجة الإخفاق في التحكم بالطاقة بالشكل المناسب والوقت المناسب .وقد كان عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الكبير ( ليزلي وايت ) من أوائل العلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع ، مميزا بين مراحل التطور البشري عبر التاريخ على أساس نوع الطاقة المبذولة ، وبالتالي تبين العلاقة بين درجة التقدم ونوع الطاقة وطبيعة التكنولوجيا الناجمة عن تلك الطاقة ، وليس هناك شك في إن هذا العالم كان متأثرا في ذلك الوقت بالمفكر الأمريكي (لويس هنري مورجان) وكتابه الذي أحدث ضجة هائلة وقت صدوره، وهو كتاب (المجتمع القديم)، والذي كان سببا رئيسيا في وضع القيود على تدريسه في الجامعات الأمريكية لعقود طويلة ، وقد انعكس ذلك كله على حياة (ليزلي وايت) لبعض الوقت ، على اعتبار إنه من أشد أنصار التطورية الجديدة .ولقد ميز ( ليزلي وايت ) في هذا الصدد بين خمس مراحل على أساس التفاوت في استخدام الطاقة ، أو على الأصح الاختلاف في نوع الطاقة المبذولة والمصادر التي تستمد منها تلك الطاقة ومدى فاعليتها في إشباع احتياجات المجتمع ، ففي البداية كان الإنسان يستخدم قواه الفيزيقية والعضلية في العمل ، ثم أعقب بعد ذلك مرحلة كان يستعين فيها بطاقة الحيوانات المستأنسة قبل أن يعرف في المرحلة الثالثة طاقة النبات المرتبطة بظهور الثورة الزراعية الأولى ، والتي انتقل منها إلى الاستعانة بالطاقة المتولدة من بعض المصادر الطبيعية ، والتي تحتاج منه إلى بذل الكثير من الجهود لاستخراجها من باطن الأرض ، والمتمثلة في الفحم وقيام الثورة الصناعية الكبرى ، ثم العثور على البترول ، وذلك قبل أن تجيء المرحلة الخامسة والأخيرة والتي يعيش فيها الإنسان المعاصر الآن ، وهي مرحلة الطاقة النووية ، والتي لم تستخدم لحد الآن على الوجه الأمثل ، والتي يبدو أنها تهيئ الطريق لظهور مرحلة جديدة لم يتم التكلم عنها كثيرا ، ولكنها تثير خواطر المفكرين الآن ، لأنها هي التي سوف تحدد صورة المجتمع الحديث وثقافة وإنسان الغد .وقد أفلح في دفع نظرية التطور الثقافي خطوات كثيرة إلى الأمام ، على الرغم من ميل معظم أنثروبولوجيي القرن العشرين إغفالها أو حتى التنكر لها بعد ظهور النزعة الوظيفية في كتاباتهم وانتهاء النزعة التطورية، والتي سيطرت على فكر القرن التاسع عشر، وأفلح في ترجمة نظريته إلى معادلة يقيس بها درجة التطور الثقافي والاجتماعي، وذلك حسب نوع وكمية الطاقة المستخدمة ، وبالتالي نوع التكنولوجيا المرتبطة بذلك، وتظهر هذه المعادلة على الشكل الآتي :(C=E.X.T.)، على اعتبار إن ( E ) هي الطاقة ، أو مقدار الطاقة التي ينتجها الفرد الواحد ويتحكم فيها ويستنفدها خلال العام الواحد أو على مدار السنة الواحدة ، مضروبة في ( T) وهي التكنولوجيا ، أي مدى كفاءة الآلات المستخدمة في تسخير تلك الطاقة والتحكم فيها واستغلالها في سد احتياجات المجتمع ككل ، بينما ترمز (( C )) إلى الثقافة، وبالتالي إلى درجة تقدم المجتمع وأسلوب الحياة ونوع الأنشطة السائدة فيه ، والتي تعبر عن ذلك التقدم، والنتيجة التي يخلص إليها ( وايت) هي إن تحكم الإنسان بالطاقة هو الذي يحدد درجة تقدمه، فالتكنولوجيا إذن هي محاولة لحل مشكلات الوجود واستمرار الحياة ، ومن هذه الناحية وفي حدود هذا الفهم فإن هذه المحاولة تعني في آخر الأمر ضرورة الحصول على قدر كاف من الطاقة وتسخيرها لسد احتياجات البشر بصورة عامة، وإنه كلما ارتفعت وزاد مقدار الطاقة التي يحصل عليها المجتمع مع ارتفاع مستوى كفاءة استخدامها، أفلح ذلك المجتمع في تحقيق مستوى أعلى من التقدم والتميز على غيره من المجتمعات، وهذا هو المعيار الحقيقي الذي يجب أن يقوم عليه تصنيف المجتمعات الإنسانية كلها وخلال كل مراحل التاريخ من ناحية ، وتصنيف المجتمعات الحالية من الناحية الثانية ويلخص ((وايت)) نظريته بقوله:((إن القانون الأساسي للتطور الثقافي هو
الطاقة وتشكيل المستقبل
نشر في: 25 مايو, 2011: 05:48 م