نزار عبد الستار حصانة الإنسان تكمن في أن يمتلك مفهوماً عاماً وطبيعياً عن درجة قسوة الحياة. على هذا القالب نشأت الصلابة القلبية وتفشّت الصراعات. منذ أول كتاب لجيوفاني بوكاشيو والعالم يحتفي بالذين يمتلكون تصوراًِ مكسوراً عن العالم. إن عظمة الأدب تتلخص في الشجاعة التي تنتاب البعض لاكتشاف دلالات جديدة لحبة العنب.
حتى الذين لا يعرفون أي شيء عن مكابدات العقول الشكاكة يتوقون لتبديل أكثر القناعات رسوخا، والتضحية بكل المعتقدات الواقعية في سبيل الخيال الأنيق. حروب الكلام لا تقل أصالة عن التناسل، فما أن ننطق بشيء جديد حتى نجد ملايين الأفواه تهاجمنا بالكلام القديم. إن وصف العالم أهم مهمة يمكن أن يقوم بها الروائي ذلك لأنه سيكون قد نقل آلاف الصور عبر الكلمات وكلما كانت الدهشة كبيرة أصبحت الغبطة متحققة. لقد حقق فلوبير إنجازاً باهراً حين استعمل الوصف البانورامي في تشكيل الصورة، فقد أدرك هول الضياع الذي يصيب الروائي وهو أمام حيرة الانتقاء. لقد سد فلوبير فراغات الفضاء وطور أسلوب التطابق مع الواقع، وهو الأمر الذي اوجد فرصة لازدهار سريع للفن الروائي. إن نقل روحية الحياة إلى الكلمات صنعة في غاية الدقة وهي تتطلب من الروائي ان يكون عالما بكيفية التدخل. فلو ان فلوبير وصف عنزة تلوك ورقة توت باطمئنان روحي فان العنزة بالنهاية لابد من أن ترتكب حماقة ما. لقد عطّل فلوبير الفضول الكريه الذي كان يدغدغ العباقرة في الماضي والتزم بالصورة وليس بالتأويل، فهو لن يتهم العنزة بالشراهة والاعتداء على الجمال النباتي، وإنما سيجعلها تلتهم بغباء قطعة قماش. مصائر الأبطال تغيرت تماما مع مطلع القرن العشرين ولم يعد بالإمكان تصديق كل شيء. لقد كافحت الرواية طويلاً من أجل التحليل، وهذا الأمر كان يواكب تطور العالم. في العقود القديمة كان التقليد يحكم كل شيء والعراقة هي سمة حياة، حتى الفقر كانت له تقاليده المؤبدة، ولكن مع جنون العالم خرج الروائيون بصورة ديناميكية عن الوجود. لقد تطلب الأمر محو الذات الواعظة واستبدالها بالذات الخالقة. كثيرون من عظماء العالم أدركوا مبكراً شراسة المنافسة حتى قبل ان تتطور الحركة وتصبح ذات قوة جبارة. لقد بات من الواضح ان اختلافاً قد طرأ على معاناة الإنسان، وقد ساهمت الحروب في إلقاء البشرية كلها في معصرة واحدة الأمر الذي حفز الأفكار وجعل المعاناة تقترن بالتغيير. المدارس الفنية التي خرجت من دخان المدافع اهتمت بالصورة المملة والبشعة. لقد أوجدت الرواية الجديدة في فرنسا صوراً باردة عن الحقيقة المرة، وآمنت مكرهة بالمأساة البشرية الكبرى، لكن ذلك لم يدم طويلا، فعلى الجانب الآخر من العالم كانت بغال أمريكا اللاتينية تعبر الحدود البرية، وتركب السفن حاملة صورة جديدة عن الإنسان في بقعة تراب نائية تتفاءل بالطبيعة.إن أهم ما تعلّمه العالم من أخطائه هو ان أي دمار يصيبنا سيعيدنا بشكل آخر إلى حالة من الثقة بروعة الوجود. هذه التناسخية الروحية ظهرت أولاً في الأدب حين تم التسامح مع كل الثقافات. بهذه البساطة ولد غابرييل غارسيا ماركيز وجماعته من لقطاء الدكتاتوريات اللاتينية. لقد بات بالإمكان رؤية مناطق أبعد من مركز العالم ورؤية ما في عمق الصورة.الرواية الناجحة هي التي تقرأ العالم بشكل مختلف. الإعلانات الآن تبلغنا بشيء مشابه، فقد تبيعنا شركة ما صابونة فواحة وتقول عنها إن فيها ثلاثة أقداح من الحليب. إنّ الحليب في الحقيقة لم تعد له أوعية ثابتة وتقليدية، والأبقار كذلك صارت تتمتع بصحة فائقة العناية أسوة برؤساء الدول. بهذه التقنية جددت الرواية الحب وعمّقت فينا مفاهيم مبتكرة عن روعة السفر في القطار. لقد كافح فلوبير طويلاً من اجل ان يرى بشكل أفضل وحاول الكثيرون بعده تحسين مجال الرؤية لكن ليس باتجاه الوضوح والتطابق مع الواقع وإنما من اجل تجديد الدلالة، لهذا باتت الحياة في الرواية مختلفة عما نعرف. ان تطور الرواية ارتبط دائما بالصورة الشعبية عن الحياة وما حالة التطرف التي أصابت الرواية في تقلبات ما بعد الحرب العالمية الثانية إلا محاولة لتطويع الخيال والتمهيد لبهجة جديدة. نحن الآن نعيش بطريقة مختلفة، ولابد من أن تسرع الرواية وتصل قبلنا إلى المحطة القادمة. هكذا هو العلم وهكذا هو الأدب أيضا: سبق للحياة.الروائيون العظماء هم الذين يفرحونا بصورة رشيقة عن العالم وهم الذين يقولون لنا أين تكمن يرقات الجمال. إن الحكمة مندمجة الآن بالمتعة حيث للأشياء أكثر من معنى والانتصار في العشق له أكثر من وجه.
رشاقة الصورة
نشر في: 27 مايو, 2011: 05:40 م