لغير ممارسي العمل السياسي، من أمثالي، لا يعتبر بعيدا بما يكفي لكي تنساه، وليس قريبا بما يكفي لإلزامك بتذكره، ولا عابرا لكي يمر عليك وكأنه لم يكن، وبالتأكيد ليس صغيرا حتى تحاول تجنبه. إنه شخص بعينه، بملامح وسمات خاصة ومتفردة تماما، وهو في الوقت نفسه تاريخ حافل يجعل منه كيانا أكبر من مجرد شخصيته، كما هو زعيم يضطرك الى النظر اليه بوصفه ظاهرة ضد التيار.
التحزب وضيق الأفق وقلة الصبر وضعف الحيلة خصائص طاغية على السياسة بل الشخصية العراقية. ولكن أيا منها لم يعلق به. انه على العكس من ذلك متفتح، حليم، حر، أكثر ساسة العراق مرونة، وأقلهم عدوانية، وأوسعهم قبولا. ولذلك بوسعه وحده أن يكون حَكَما، أو بالأحرى الأقرب الى هذا الموقع، لأن هذا هو الموقع المستحيل في العراق. فقد شغله شخص وحيد، وبعده لم يوجد حَكَم وإنْ وجد حكيم. الخصومات خرجت من دائرة السيطرة ونزلت بالتدريج الى الشارع وطغت وتحكمت بعد فيصل الأول.
ان الشخص هو البذرة. والموقع هو الأرض الممهدة. والثمرة هي نتاج التفاعل بين البذرة والتربة. وجلال طالباني بذرة الحَكَم التي تمنعت عليها تربة السياسة العراقية غير الممهدة، الوعرة، والعنيفة. ورغم ذلك فإن الجميع يستمع اليه، ويتأثر به، لأنه احتكر امتياز الاستثناء بين الساسة في الوفاق مع الجميع، اللهم الا ممن أخرجه عن طوره مكانٌ أعلى منه.
لم تغير رئاسة الجمهورية فيه شيئا، بل زادته بساطة، وأريحية، وتواضعا، وحكمة، ونكتة. وعلى رأي استاذنا خالد القشطيني فإنه الرئيس الوحيد في عالم اليوم الذي يتمتع بروح الدعابة. إن موهبته تامة من هذه الناحية. فهو يستطيع عن طريق روايته الخاصة أن يضحكك بنكتة قديمة. ويهلكك من الضحك اذا كانت جديدة.
وروح الدعابة شيء أكبر من مجرد خفة دم، وإنْ كانت هذه ليست قليلة. انها اعلان انفتاح، ووسيلة صداقة، وطريقة مشاركة، وعلامة ثقة، ورغبة تواصل، وقدرة تجسير، ودفعة انسانية، وأداة تحرر. وهذه الأشياء تجد منها هذا المقدار او ذاك في حزبه، الاتحاد الوطني الكردستاني. ولعله الوحيد بين الأحزاب العراقية الذي يضم عددا غير قليل من الكوادر الليبرالية. وانك لتجد في بعضهم كرديةً مساويةً للعراقية، شأن الصديقين عدنان المفتي وعادل مراد، أو من هو أقل عمرا منهما شأن برهم صالح. ولعل الأخير وجد نفسه في بغداد اكثر مما وجدها في أربيل.
وينطبق الأمر على حرمه السيدة هيرو خان. فهذه الشخصية "المستقلة" نوعا من الاستقلال في الفكر والسلوك، تشعرك هي الأخرى بأنها ابنة هذا الزمان، ابنة العصر، شأن زوجها المطبوع بنكهة الأزمنة الحديثة، مع احتفاظه بنَفّس طويل يبدو وكأنه مترسب فيه من حكمة الأسلاف. انه المتسامح في زمن التعصب، السياسي في عالم القبضايات، المحب للحياة وسط عبيد الموت، التوافقي دائما، والمختلف الذي لا يشبه غيره أبدا.
وحين استذكر بعض محطات حياته تستوقفني اجابة ياسر عرفات على سؤال جاء فيه ان هدفك واضح فهل سرت اليه في طريق واضح. رد عرفات: أنا اسير في حقل ألغام. وفي طريق مشابه أنفق جلال طالباني عمره. وأثبت انه "مدرسة" في السير على الطرق الملغومة. وهذه الدروب الخطيرة هي اليوم أكثر ما تكون احتياجا الى قدرته على نزع الألغام.
دم سالما للعراق مام جلال.