فخري كريم
مثل اغلب المصادفات التي تحكمت في أقدار من انتقلوا إلى مراكز السلطة والمسؤولية دون أن يراودهم ذلك حتى في أحلام اليقظة،
أصبح أسامة النجيفي بالصدفة المحضة رئيساً لبرلمان العراق الجديد، دون أن يفك الارتباط بالماضي او يتحسس مواقع قدمه وهو ينزلق إلى مواقف لا تعبر عن تقييم حقيقي للصدفة التي كانت وراء انتخابه لهذا الموقع الرفيع والحساس للغاية.
النجيفي لابد أن لا ينسى بان اختلال التوازن في العملية السياسية، والارتباك داخل كتلته المتنافرة بحكم التناقضات التي لا تزال تعصف بها والمصالح التي تضع أطرافها على مفترق طرق مفتوحة على أكثر من خيار، بما في ذلك إعادة اصطفاف قياداتها، هي التي كانت وراء "حظه السعيد" في تبوؤ منصبه، وليس الاعتبارات الأخرى التي يتطلبها المنصب والمسؤوليات والتي قد يتوهم أنها كانت وراء هذا الحظ. إن إدراك هذه الحقيقة الإشكالية، ضروري للغاية إذا ما أراد النجيفي ألّا يتحول السعد في حياته السياسية إلى نحس غير مستحب. فالحراك السياسي مستمر في العصف بما هو قائم، والتوازنات في قيادة الدولة والحركة السياسية تنتظر الكثير من التغيّرات والتحولات الدراماتيكية، وسعيدٌ من يجد نفسه متوازناً مع مثل هذه التوقعات، وينطلق من موجباتها واستحقاقاتها السياسية، ومنها دون شك، إعادة النظر في تقييمه لما يسعى الشعب إلى تحقيقه في المرحلة القادمة، وفي جوهر هذا التقييم التدليل بوضوح على احترام الدستور والخيار الديمقراطي، والامتناع عن "الجلوس على كرسيين".
إن وقائع عديدة في سلوكه العملي بعد تبوئه موقعه الجديد، إذا افترضنا تجاوز ما قبل ذلك، لا تبين انه قرر تغيير نهجه وبرنامجه السياسي الذي لم يعد مضمرا بعد أن عبر عنه بوضوح في خطابه الأول بعد انتخابه رئيساً لمجلس النواب. وفي هذا السياق لا ينبغي الفصل بين توجهاته وأهدافه وشعاراته ومطامحه الحقيقية عن هذا كله في ما يقوم به شقيقه أثيل النجيفي محافظ نينوى. ولم يكن سلوكا الأخوين يختلفان في أي جزئية لهما منذ سقوط الطاغية حتى لحظة إلقاء أسامة النجيفي خطابه البرلماني الأول الذي فرض منهجاً مغايراً في التعبير والتفاصيل، تقتضيه توزيع الأدوار بين الشقيقين التوأمين السياميين سياسياً.
لقد التزم النجيفي الصمت في بغداد عما قام به النجيفي في نينوى حين شارك الأخير في تظاهرات، "صدامية" في الشكل والشعارات، تحت العلم بالنجوم الثلاثية المشؤومة، وبالهتافات المعدة سلفاً في مطابخ يعرفها الشقيقان، والتي تطالب بإسقاط النظام الذي يفترض أن النجيفيين جزء منه.. وذلك زحفاً إلى بغداد.!
نجيفي بغداد ذهب ابعد من التزام الصمت إزاء موقف شقيقه، حين حنث بالقسم وخرق الدستور عن عمد، وتواطأ في ارتكاب خطيئتين دستوريتين، حيث لا يسلم من طائلة المسؤولية القضائية مهما طال الزمن أو قصر، الخطيئة الأولى، تتمثل بإمراره صفقة "السلة الفاسدة" بانتخاب النواب الثلاثة لرئيس الجمهورية، إما الخطيئة الثانية التي تعد من الكبائر، فهي في إمرار نائبين "منتحلين" لصفة نائبين للرئيس، واستمرارهما في هذا الحمل غير الشرعي في الفترة الانتقالية التي لا ينص الدستور فيها على وجود أي نائب، قبل "تشريع" قانون لنواب الرئيس والتصويت عليه بالأغلبية في مجلس النواب، وابعد من ذلك في ترشيح رئيس الجمهورية لمن يراه ويحظى بموافقة الأغلبية أيضا. ومما يؤكد الانتحال استمرارهما في تسلّم الرواتب المخصصة "لعضو مجلس الرئاسة" والبنود المالية للفترة الانتقالية، ولن يلغي تهمة الانتحال ما يشير له أنصارهما من أن رئيس مجلس القضاء كان له دور في هذه الخطيئة المرتكبة بحق الدستور، بصمته بل وتأكيده، كما يقال، بان تصرفهما لا غبار عليه، وهو أمر أتمنى ألّا يكون صحيحاً، وكلي تطلعٌ إلى أن يكون براءً من هذا، لأنه يعني من وجهة الاحتكام إلى الدستور والى المبادئ الديمقراطية التي كرس أسسها، نهاية حقبة الركون إلى السلطة القضائية بصفتها المفوضة عن الشعب في حمايته من التجاوز أيا كان مصدر التجاوز، خصوصاً اذا افترضنا حقيقة الفصل بين السلطات الثلاث، واستقلالية القضاء عن أي تأثير من السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويتذكر رجالات السياسة والقانون الكلام المأثور لتشرشل حين قيل له بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عن حجم الدمار الذي حل ببلاده، فتساءل عن وضع القضاء فقيل له انه بخير، فانفرجت أساريره وقال في هذه الحالة سنعيد بناء الدولة أقوى من السابق.
قد يعتقد النجيفي وحليفه السيد النائب، بان الخرق الفاضح للدستور انتهت ملاحقته، بعد أن "سجل ضد مجهول" بسحب الأوراق التحقيقية، وربما أن جهة قضائية رفيعة كانت وراء إيهامهما بذلك، كما يقال، وأرجح عدم التصديق للإبقاء على باب الأمل مفتوحاً أمام شعبنا في إمكانية إجراء انعطافةٍ يستعيد عبرها إرادته الحرة في إيقاظ ضمائر القادة الذين استهواهم "سبات أهل الكهف"، ويستطيع فرض الإصلاح الذي ينهي عزلته عن مركز القرار، ويضع حداً للفساد والنهب والحرمان والظلام والبطالة والعسف في تفسير الحقوق ومبادئ الدستور.
إنني من هذه الزاوية في "المدى" التي فضلت الركون إليها للتعبير من خلالها عن إرادتي كـ"مواطن" أعلن بصوت مسموع أن "الانتحال" الفض للدستور لن يمر، رغم تقديري أن التعدي عليه، كما التعدي على الحريات وحقوق المواطنين قد يستمر لبعض الوقت، لكنه من المستحيل أن يتحول إلى ظاهرة مستدامة لا خلاص منها، كما يتوهم "الجسم الفاسد" في الزوايا المظلمة في أركان الدولة المستباحة.
ومن هذا الزاوية المضيئة أعلن للنجيفي ومسايريه في خرق الدستور أن خطوتي التالية هي التوجه إلى المحكمة الاتحادية لمقاضاته ومن معه استناداً إلى الدستور وأحكامه وبنوده. وسأواصل العمل ضد منتهكيه إعلاميا وسياسياً بالوسائل الديمقراطية التي يكفلها الدستور للمواطنين، مهما كلفني ذلك من جهد ووقت وتضحيات، وثقتي كبيرة في أن الاحتقان الشعبي لابد أن يتحول إلى يقظةٍ وتتحول الاحتجاجات المتفرقة التي توحي بالجزع والاستسلام إلى نهوض جارف.
وعلى النجيفي ومسايريه ألا ينسى وهو في موقع السلطة التشريعية أن كل ما يبنى على الباطل.. باطل، مهما طال الزمن.
إما الدعوى القضائية التي أقامها النجيفي على المدى وطلب فيها تعويضه بمئة وخمسين مليون دينار، فهي حق لكل مواطن إذا ما بُنيت على بينةٍ، برغم أن هذه الدعوى مقامة من رئيس مجلسٍ وظيفته كفالة الحريات ووضع الحقائق أمام المواطنين واحترام الرأي الآخر.
لقد تداعى العشرات من أصدقاء المدى للوقوف إلى جانب التعبير الحر وحماية الإعلام من تعديات من يرون في تكميمها إغراق البلاد في المزيد من الفساد والعسف وتعطيل الحريات وإجهاض بناء دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان.
والى جنب هؤلاء العشرات ثمة إرادة الشعب بالانتصار إلى حقه في الحصول على معلومات دقيقة ورأي حر وشجاع.. إرادة الشعب في الانتهاء من صفحة الفساد واللعب على الدستور والحياة الديمقراطية.. ومن لم يسمع إرادة الشعب اليوم سيسمعها غدا مرغما ولكن بعد فوات الأوان..
لن يخفى شيء..وما تستره التوافقات والمحاصصات في هذا الظرف المربك ستفضحه اللحظة التي يستعيد فيها الشعب زمام المبادرة ليفضح كل مرتكبٍ لأثم صاحبه الآخر وتتداعى الأوراق، أوراق الفساد والخداع واللعب على القانون والدستور والديمقراطية.