أوس عز الدين عباس كان الاهتمام بالمستقبل دائما من الأمور التي تشغل بال الإنسان منذ بداية ظهوره ، وقد بلغ ذلك الانشغال ذروته في أواخر القرن الماضي ، ولكن لا تزال هذه الذروة تتصاعد ويتسع نطاقها بتعقد الحياة وتشعب الاهتمامات وتفرع المطالب. لقد أصبحت هناك الآن مؤسسات متخصصة تحاول التعرف مسبقا على طبيعة الظروف المختلفة التي يتوقع أن يجد الإنسان فيها نفسه في المستقبل غير البعيد ، وكيف يمكنه أن يهيئ نفسه لمواجهة هذه الظروف والتعامل معها بجدية كي يستمر في الوجود والبقاء ،
وخاصة إن كثيرا من المستجدات التي يزخر بها عالم اليوم تظهر لنا بشكل مفاجئ ، وتتصادم مع كل ماجرت عليه حياته وما اعتاده من أساليب التفكير وأنماط القيم والكثير من الثوابت والمبادئ المسلم بها ، والتي يصعب التنازل عنها ، فضلا عن التنكر لها أو رفضها ، والجانب الأكبر من كل هذه التغيرات الصادمة يرتبط ارتباطا وثيقا بالتطورات التكنولوجية الهائلة والتي تعتبر من أهم معايير التقدم عندنا.rnومع بدايات القرن الحادي والعشرين أصبح لزاما على المهتمين بمستقبل العالم والجنس البشري أن يأخذوا في اعتبارهم الأوضاع الجديدة الناشئة عن اتجاهات العولمة ، والمشكلات التي ظهرت بالفعل والتي يتوقع ظهورها المفاجئ نتيجة التقدم العلمي الكبير والثورة التكنولوجية الهائلة والتطورات الاجتماعية والسياسية وتدفق المعلومات واتساع نطاق التحركات البشرية المختلفة رأسيا وأفقيا ، وغير ذلك من التحديات الطارئة والتي تمثل تهديدا لجوانب عديدة من المسلمات الثقافية الوطنية والقومية ، ومن الواضح إن هذا التقدم التكنولوجي سوف يتحقق بمعدلات أكبر وأوسع وأسرع من التطورات الثقافية والاجتماعية والبيولوجية على حد سواء ، حيث يحتاج التطور البيولوجي بالذات إلى حقبات زمنية طويلة جدا ، بالرغم من إنه لم يعد متوقفا على عوامل الانتخاب الطبيعي الشديد التباطؤ ، وبالرغم من النجاح الذي أحرزته علوم الطب والتغذية وقدراتها الفائقة على التأثير الكبير في حياة البشر ، فإن الأفكار الجديدة سوف ترتبط ارتباطا وثيقا بالمستجدات التكنولوجية الحديثة والتي تساعد بدورها على نشر تلك الأفكار ، كما إن هذه التكنولوجيا الجديدة سوف تؤدي إلى تغييرات جذرية كبيرة جدا في كل أنحاء العالم ، حيث أصبح الاتصال ميسورا بين مختلف الشعوب والثقافات المختلفة ، وإذا كانت التغيرات الاجتماعية عملية متصلة ومستمرة وتحتاج إلى فترات طويلة من الزمن ، فإن التطورات التكنولوجية الآن تتم بمعدلات متسارعة للغاية ، ولذلك نجد إنه بينما يتكلم العلماء عن المتصل الثقافي الذي يربط الماضي بالحاضر ، على أساس إن التغيرات الاجتماعية هي عمليات تراكمية ، وبالرغم من كل ماقد يحدث من انقطاعات وانكسارات في ذلك المتصل ، فإنهم يتكلمون الآن عن التغيرات الفجائية الناجمة عن الطفرات التكنولوجية الواسعة ، والتي تمت خلال تاريخ الجنس البشري والتي لاتزال تتوالى ، والتي أدت في رأي بعضهم إلى انتقال المجتمع الإنساني من مرحلة التنقل والبداوة وبمختلف صورها وأشكالها المتعددة إلى مرحلة الزراعة والاستقرار ، إلى مرحلة الصناعة والحضارة الحديثة بكل ماتحمله من تعقيدات ، إلى مجتمع مافوق الصناعة ، والذي تمثل فيه التكنولوجيات المتقدمة في مجال المعلومات قوة هائلة في تشكيل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكذلك الثقافية وعلى مستوى العالم ككل .وقد ترتب على هذه الاختلافات بين طبيعة ونوعية التغيرات الاجتماعية والثقافية والتغيرات التكنولوجية إخفاق المجتمع الإنساني في أحيان كثيرة في التلاؤم بالسرعة الكافية مع تلك الطفرات التكنولوجية الهائلة والتكيف مع المستجدات ومع النتائج غير المتوقعة والعجز عن تقبل هذه النتائج ، ولعل أوضح مثال على ذلك هو مانشاهده الآن من رفض بعض الثقافات لفكرة الاستنساخ والتي جاءت نتيجة للطفرة الواسعة في بعض مجالات البحث العلمي ، ولذلك فإن أي نسق ثوري جديد يؤدي في الأغلب إلى حدوث خلل في العلاقات القائمة ، بل وإلى فقدان التوازن الاجتماعي وارتباك التوجه العام .وينطبق كل ذلك على المجال العلمي والتكنولوجي وبقدر مايصدق على الحياة السياسية ، وكثيرا ما يكون ذلك بمنزلة الصدمة للواقع القائم والذي يثير ردود فعل متباينة ، فالتقدم التكنولوجي حقق في مجال الكومبيوتر مثلا طفرات تفوق كل التوقعات وفي فترة قصيرة نسبيا ، ففي أواخر الستينات من القرن الماضي كان هناك من بين المشتغلين في الشركات الكبرى العاملة في ذلك المجال من يشكك في أهميته وفاعليته ومن جدوى الشرائح الدقيقة ، بل إنه في السبعينات من القرن نفسه كان هناك من يرى إنه ليس ثمة مايدعو لأن يملك الفرد (( كومبيوتر )) خاصا به في منزله ، وهذا التشكك نفسه كان يلازم دائما كل المكتشفات الحديثة في مجال الاتصال،ابتداءً من جهاز الهاتف حتى إمكان الوصول إلى القمر ، ولذلك حين تحققت هذه الإمكانات كانت بمنزلة صدمة للكثيرين ، وأدت إلى اختلال الموازين والتقديرات والعلاقات والسلوكيات .والواقع إن كثيرا من التحديات التي يواجهها العالم الآن لها مخاطر يصعب على أي حكومة أو أي منظمة التغلب عليها بمفردها ، مما يستدعي تعاون المجتمع الإنساني ككل بجميع مؤسساته وتنظيماته الفاعلة، ومن هذه الأخطار الزيادة السكانية الكبيرة وارتفاع معدلات استهلاك الطاقة وأخطار انتشار بعض الأمراض والأوبئة الخطيرة ، وازدياد التوجه نحو استخدام أسلحة الدمار الشامل سواء الكيماوية
التطورات التكنولوجية واستمرار الحياة
نشر في: 29 مايو, 2011: 05:07 م