يوسف القعيدقرأت رواية الروائية المتميزة هالة البدري "مطر على بغداد" باستمتاع حقيقي، وهو من الأمور النادرة، بل شديدة الندرة لدي عند التعامل مع كثير من السرد المعاصر، مترجماً كان أو مؤلفاً. قلت لنفسي هذا هو جوهر الهدف الأول والأخير من السرد.
منذ أن افتدت شهرزاد عمرها وحياة بنات جنسها بالحكايات تقول نورا سليمان، واسمها الحقيقي نورا إبراهيم فهمي: القناع الذي استخدمته هالة البدري في سرد حكايتها – بلغني أيها القارئ السعيد – ثم تبدأ في سرد روايتها من القاهرة إلى بغداد في الفترة الواقعة بين عامي 1975، 1982. مع استرجاعات تغطي حوالي نصف قرن من تاريخ العراق الحديث،رحت أسأل نفسي مندهشاً، لماذا أتذوق مفردات الحكي بكل هذه المتعة؟ هل لتدفقه؟ هل لأن النص يُرْوى بضمير المتكلم؟ أم لأنني عايشت وعاصرت كثيراً من الأحداث؟ لا تتصور أن هذه المتعة التي أكثرت من الحديث عنها، تشكل الهدف من السرد في العمل، فالرواية رواية أصوات. الروائية تلجأ لشكل الأصوات ليس بالطريقة التقليدية، أي أن يتولى بطل أو بطلة سرد فصل من الفصول، وهو ما نجده في رباعية الإسكندرية لداريل. أو الرجل الذي فقد ظله لفتحي غانم، وقبله: الظلال في الجانب الآخر لمحمود دياب، وهو نص جميل وعذب شبه مجهول لكاتب ظلم حياً، ومازلنا نمارس ظلمه ميتاً، ثم رواية نجيب محفوظ ميرامار، وهي كلها روايات أصوات يسميها النقاد – مثلما فعلت الناقدة العربية الأردنية سمية الشوابكة - الرواية البولوفونية. وهذا الموضوع تعمل عليه الآن الدكتورة حنان السعيد، مدرسة الأدب الإنجليزي والأدب المقارن بجامعة عين شمس. ومديرة مركز خدمة المجتمع بالجامعة، حيث تجري سلسلة من المقارنات بين روائيين عالميين ومصريين وعرب، استخدموا أسلوب رواية الأصوات في الكتابة الروائية، وأرشح لها رواية هالة البدري: مطر على بغداد. لتكون جزءاً من دراستها التي أعتقد أنها ستكون من الدراسات المهمة.هالة البدري في مطرها النازل على بغداد. تلجأ إلى رواية الأصوات ولكن من خلال تشكيلين جديدين، أولهما اليوميات، سواء يوميات أنهار خيون الصحفية العراقية الشابة، أو أوراق حلمي أمين الصحفي المغترب في بغداد، ومن خلال معالجة فيها تشويق قد يقترب من الرواية البوليسية، عندما نسير في الأحداث فنكتشف أن البطلة تعثر على أوراق أنهار وحلمي خلال رحلة لها إلى بغداد في صندوق بريد خاص بها، وهي لا تفرد فصولاً لهذه الأوراق، مما قد يوقف الحكي، وقد يؤثر على سيولته. نقرأ الأوراق مع نورا سليمان التي تحيا رحلتها العراقية وتقرأ في بعض أوقاتها ما فيها،الشكل الثاني الذي لجأت إليه الكاتبة هو فن الرسائل، ومنذ أن قرأت الرواية الأمريكية: جورج أبلي الراحل، لكاتب أمريكي من الرواد الأوائل تاه مني اسمه. والرواية كلها على شكل رسائل من الكلمة الأولى وحتى الكلمة الأخيرة. بل أن هالة البدري تنهي روايتها الطويلة - 432 صفحة من القطع الكبير - برسالة من الشاب بسيوني عبد المعين، مكتوبة في بيروت في فبراير/شباط 1982.لن يشغلني شكل هذه الرواية الجميلة عن الكلام عما يقدمه شكلها الفني، ولذلك أحدثك بسرعة عن عالمها الروائي، تجري الأحداث في بغداد كنقطة ارتكاز تنطلق منها البطلة إلى شمال العراق تحديداً أربيل. وإلى جنوبه حتى البصرة، مروراً بالأهواز. أما عن الزمان. فهو النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، عندما حدثت هجرة مصرية جماعية باتجاه بغداد احتجاجاً أو رفضاً أو هروباً مما كان يجري في مصر في تلك السنوات، عندما تقرر فك البلاد المصرية وإعادة تركيبها من جديد.خمسة ملايين مصري كانوا في بغداد، لذلك أحذرك أن تحاول الفرز بين ما هو مصري وما هو عراقي، ستتعب كثيراً. لن تنجح أبداً، ولن تعرف أين تنتهي حكايات أهل مصر من المغتربين، ولا أين تبدأ قصص العراقيين. إنها رواية 1975 وما بعدها زماناً، وبغداد وما حولها مكاناً، مع تركيز روائي على تجربة قرية الخالصة عندما تم تهجير عدد من الفلاحين المصريين، لينقلوا تجربة الزراعة المصرية إلى أرض الرافدين. تلك هي ملحمة هالة البدري الجديدة.وكانت هالة البدري قد عملت مراسلة لمجلتي: روز اليوسف وصباح الخير في بغداد. في الفترة من 1975 إلى 1980، وهو الزمن الذي شهد كثيراً من الأحداث المصرية والعربية في نهايات يقظة حرب أكتوبر/ت1 1973، توقيع معاهدة كامب ديفيد، تحول صدام حسين من السيد النائب إلى السيد الرئيس، الهجرة العربية العامة إلى بغداد التي شملت علاوة على المصريين الفلسطينيين وغيرهم من رموز اليسار العربي والفكر القومي حيث تتوقف راوية القصة أو أصحاب الأصوات أو كتاب الرسائل أمام التحول الكبير الذي جرى في المصائر العربية خلال هذه السنوات. وإن كان يمكن القول عن بعض الأمكنة بأنها عبقرية، فبعض الأزمنة أيضاً عبقرية بصرف النظر عن تحولاتها ،هل كانت بالسلب أم بالإيجاب،قلت إنها رواية هالة البدري الأولى التي أقرأها، رغم نتاجها الأدبي الذي لا يوصف بالغزارة وأيضاً لا يمكن وصفه بالندرة. صدر لها من قبل: السباحة في قمقم رواية 1988، رقصة الشمس والغيم قصص 1989، أجنحة الحصان قصص 1992، منتهى رواية 1995، ليس الآن ر
صدر عن (المدى): مـطـر عـلى بـغـــداد
نشر في: 31 مايو, 2011: 05:16 م