شاكر لعيبي كتبنا ذات مرة في هذا العمود عن العلاقة بين المنمنمة والنص في الإرث التشكيلي العربي الإسلامي. ليس بالإمكان تجاوز رسام باهر مثل الواسطي في هذا المقام. على المستوى الطوبوغرافي لو صح التعبير، أي الطريقة التي تتقسَّم فيها مساحة الصفحة بين (المنمنمة) المرسومة و(النص المكتوب)، ما هي الحلول المُقترحَة؟ وهل يمكن أن تكون هذه الحلول نتيجة عمل مشترك بين خطاطٍ ورسامٍ أم أنها لا يمكن سوى أن تكون تفكيراً فردياً لشخصٍ واحد؟.
إننا نلحّ على إمكانية أن يكون بعض النسّاخ من مصوّري المنمنمات. إلحاحٌ يتابع، جوهرياً، هاجساً جمالياً ومفهومياً. وهذا الأخير ينطلق من التفكير بالطريقة الآتية: إن مساحة الصفحة أيْ فضاء العمل البلاستيكي لا يمكن، في حالات كثيرة متقدّمة زمنياً، سوى أن يكون فضاءً شخصياً لأنه دليلٌ على طريقة تفكير فردية ونمط علاقةٍ حساسّةٍ مع حيّز ما من العالم: الفضاء من جديد. لعل أعمال يحيى الواسطيّ تقدِّم برهاناً على هذا الهاجس المفهوميّ، خاصة بمعرفتنا الأكيدة بأنه مُنفِّذ الخط والرسم كليهما.أولا: كقاعدة عامة يضع الواسطي كتلة الكتابة أعلى المنمنمة أو أسفلها لتصير داعمة للكتلة البصرية ولتشكّل معها وحدة واحدة عبر كثافتها، وبشكل متوازن مدروس في الغالب: سطران أعلى المنمنمة وسطران أسفلها في حالات ليست نادرة، وهي تقل أو تزيد حسب التكوينة العامة (أحيانا 4 أسطر أعلى الرسم و4 أسفله)، خالقاً بذلك توازناً بصرياً لمجموع الصفحة.ثانيا: طول سطر الكتابة يتابع، في حالات كثيرة بل يحترم عرض التصوير على الصفحة، بحيث يجعل أسطره لا تتجاوز الكتلة الأبرز من الرسم. وهو بذلك يدمج النص مع كتلة الرسم. ثالثاً: في حالات أخرى تغدو(كثافة الكتابة) معادلاً بصريا لكتلة أساسية في التكوينة (التكوين، التأليف) composition، فتصير الصفحة في حالة توازن تكوينيّ واضح. إن تلك الكتلة المرسومة مثلاً ستعادلها كتلة مخطوطة من الأحرف. رابعا: في الأمثلة التي يكون فيها التصوير غالباً على طوبوغرافية الصفحة تسعى الكتابة أن تكون جزءاً من التكوينة العامة وهي تُشْغِل الفراغات التي قد تسبَّب عدم التوازن البصريّ. خامساً: ثمة حالات مهمة كذلك تصير الكتابة حوافّ جانبية وطولانية للتصوير، بعدما كانت أفقية فحسب. حافات متعرجة، تستهدف أول ما تستهدف إلغاء الفراغ لكنها أيضا تُخفي بنية معمارية مُبسَّطة تحيط بالشخصيات، وتغدو نوعاً من عمارة خفيّة ستظهر حالما نعيد تركيب اتجاهات الكتابة بالخطوط الهندسية الخارجية. سادساً: المزاوجة بين كتلة كتابة ثابتة أفقية وأخرى عرضية متماوجة، لكن ليس من أجل إقامة حافات معمارية متخيلة حول الشخصيات لكم من أجل دعم إيقاع الرسم، هناك مثال في منمنماته يقدِّم التصوير فيه حركية عالية ذات إيقاع تصاعديّ إذا صح التعبير: الكتابة الأفقية إلى الأعلى تدعم النغمة الأساسية، بينما الكتابة العمودية تبدو متماوجة، وهي تدعم التنويعات المتموّجة لإيقاع التصوير الظاهر في حركة الرايات. الكتابة تتمايل مثل الرايات. هنا جدل الأفقي والعمودي، الامتلاء وقرينه الفراغ، الثابت والمتحرك، القرار والجواب في الموسيقى العربية. كان انشغال الواسطي الجوهريّ، في جميع الحالات، خلق طوبوغرافية متوازنة، حسب الفضاءات والأحجام والضرورات الداخلية الشخصية. لذا نلاحظ، رغم التنويعات الستة الممكنة أعلاه في تقسيم طوبوغرافية صفحاته، حضور نبرة تشكيلية واحدة ثابتة فيها جميعاً، هي مزاج الواسطي الفنان وخياراته، وقد عرف كيف ينسّق من أجلها السطح التصويري محافظاً على وحدة الكتابة والتصوير وتلاحمهما القوي، بل الخلاق.نماذج أخرى من مدرسة بغداد للتصوير قد تشير إلى أن ما يقوم به الواسطي من تنويعات في التقسيم الطوبوغرافي للصفحة كان عُرْفا تشكيلياً عاماً اتبعه جُلّ (المصوّرين- الخطاطين) أو الخطاطين المتعاونين مع المصورين لإنجاز كتاب مصوَّر. لن يُكذب هذه الفكرة واحد من أقدم المخطوطات العربية هو كتاب كليلة ودمنة (سوريا 1220م) الموجود اليوم في المكتبة الوطنية في باريس (arabe 3465) حيث نرى وسط الصفحة أسدين متقابلين (وفي صفحات أخرى حيوانات مختلفة بالوضعية ذاتها) مع القليل من النباتات جوارهما بينما أربعة أسطر كتابية (وفي أخريات اثنين فقط) فوقهما ومثل ذلك إلى الأسفل منهما، ضمن توزيع مثالي لا نعدم أن نجده بوفرة عند الواسطي. غير أن ليس كل أعمال هذه المخطوطة (تتضمن 98 تصويرا منها 7 أضيفت لاحقاً) تتابع عين المخطط، لأن الكتابة قد تأخذ أشكالاً عرضية أحيانا مانحة طوبوغرافية الصفحة حيوية أخرى، بينما تصاب تصاويرها بجموديةٍ ما لأنها منظَّمة على طول محور عامودي، وتقدّم المَشاهِد فيها عناصر مؤسلبة تستدعي المخطوطات البيزنطية المعاصِرة لها مثل كتاب ديسقوريدس المزيَّن بالصور الشهير.
تلويحة المدى :تعالقات طوبوغرافية بين المنمنمة والنص (مثال يحيى الواسطي)
نشر في: 3 يونيو, 2011: 06:41 م