TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > السلم وحتمية الانصياع للدولة عند اسبينوزا

السلم وحتمية الانصياع للدولة عند اسبينوزا

نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م

 
السلم انفعال نفسيّ يقترن مع الإنسان، ترافقه حالة من الهدوء الذاتي والطمأنينة، والذي عمم ليتحول إلى انفعال سياسي يرافق الدول بعد مرورها بأزمات الحرب، فالسلم كما يعرف انه المدة الزمنية بين حربين، نجد أن مونتسكيو يحدده على انه الحالة التي يعد فيها الملك كل عدته العسكرية والجيوش إذا ما حاق بشعوبه خطر الإبادة.
   اذن هو في كل الحالات نوع من أنواع السكون المشوب بالحذر والقلق والذي يمكن لأي عارض أن يسبب بتحوله من سلم إلى حرب أو صراع، وهذا القلق المرافق هو الدافع الأول الذي جعل الكثير من الفلاسفة يقنون السلم كما قننوا الحرب ليأخذ اكبر مساحة زمنية ممكنة خلال عمر الفرد والدولة. وتأخذ تشريعات السلم أشكالا عدة تتنوع بين علاقة الفرد بنفسه وتنتهي بعلاقة الفرد مع الدولة من جهة، والعلاقات الخارجية التي تبنيها الدولة مع الدول الاخرى وفق مصالحها المشتركة في ادامة السلم من جهة أخرى.
   قد اخذ اسبينوزا بالحسبان كل هذه الأوجه لتقييم نظرية السلم داخل الدولة التي اعتمدها كأفضل أنواع الدول، تلك الدولة التي يكون دور الحاكم فيها مطلقاً في تدبير شؤون الدولة أياً كانت شكل قوانينه، متبنيا فكرة ان الشعوب عليها ان تخضع لمشيئة الحاكم لانها غير قادرة على الدفاع عن حقها دون ان تحدث فرقة وإسقاط لنظام الحكم، فخضوعهم سواء أكان من ضرورة أو من العقل فإن المنطق يستدعي الإبقاء على الحاكم لان في بقائهِ ((تجنب لشر أعظم وأملاً في خير أكبر)).
   من جانب آخر يبين اسبينوزا أن فكرة خضوع الفرد وإطاعته المطلقة للحاكم هي فكرة قابلة للتغيير، فيستطيع الفرد أن يواجهه خطر الخضوع بسهولة، لان الحاكم لا يكتسب الحق في ان يأمر بما يشاء إلا بقدر ما يملك السلطة العليا بالفعل، فإذا فقدها فقد في الوقت ذاته الحق في الامر، وتحول هذا الحق إلى من يستطيع المحافظة عليه.
   وقد ركز اسبينوزا على تعريف مفهوم العدو لينطلق من تعرفيه في تحديد شرعية أي تمرد على الحكومة وقوانينها، بالقول إن العدو ((هو الذي يعيش خارج أمة معينة، ولا يعترف بسلطتها بوصفه حليفاً لها، أو واحداً من رعاياها))، فأذن العدو يمكن له أن يأخذ شكل مواطن أو دولة، مواطن عندما تكون قوانين الدولة ضده ، ودولة عندما لا تعترف بسلطة الأخرى أو تلحق بها الضرر، هنا يظهر دور الحرب حيث يحق للدولة أن ترغم معارضيها على إطاعتها أو التحالف معها بكل ما لديها من وسائل.
   مما جعل مسألة الطعن بالسيادة أو التمرد على الدولة من الأفعال المرفوضة في نظرية اسبينوزا للسلم، سواء أكانت النتيجة سلبية أم ايجابية يبقى من مارس فعل الطعن مجرم يستحق العقاب بالقانون، ولا يرتكب هكذا نوع من التمرد إلا المواطنين الذين فوضوا مسبقاً كل حقهم لذات الدولة أو السلطة، فهذا التخويل الذي منحه الفرد للدولة لا يحق له الإخلال به لأنه التزام مطلق، وكل من يعمل خلاف ذلك مدان، لذلك على الفرد تحمل مسؤولية اختياره وتنازله عن حقه في تسييس الدولة إلى السلطة العليا المسؤولة.
في المقابل ركز على حق الفرد ذاته في حريته وأولها حريته الفكرية لان سياق عمل الحرية الاسبينوزية يتجه نحو إنتاج السلام الذي يكفل الأمن والأمان للمجتمعات، فكما أعطى سلطة متنفذة طالب بالمقابل بحرية متنفذة أيضاً للفرد باعتبارها حقا طبيعيا لا يتعارض مع نظام الطبيعة وضرورتها، بالتالي لن يتعارض مع نظام الدولة ونوع حكمها بل على العكس سيوفر لأمن الدولة الاستمرارية في عملهِ ويكون الولاء هو الصفة الغالبية ضمن هكذا مجتمع أو حكومة، ذلك الولاء الممنوح لا الولاء المغصوب، الذي تكون من نتائجه السلم وأول خطواته هي الاستماع.
   وهذا ما جعل اهتمام اسبينوزا ينصب بشكل كبير في مسألة الدين والدولة وشكل العلاقة التي تربط بينهما، وحدود شرعية الدين، فهو يرى أن الجدل الديني قد سير الدول إلى الفتن والانقلابات، حينما يكون خاضع التقييم القضائي على معتقدات المحكومين لا على مواقفهم واتجاهاتهم الإنسانية، فقد تعمد على جعل من صلاحيات السلطة العليا اي الدولة تدبير الامور الدينية والدنيوية على السواء، لان السلطة العليا الحاكمة هي المنظم الأخير لتفسير وحماية القانون الإلهي ذلك القانون المنظم لشؤون الدين، لان حكم الله في الأرض لا يباشر كحكم على البشر إلا بواسطة السلطة السياسية، فالقانون الإلهي يطلب نفوذه عندما يأخذ العمل بالعدل والإحسان قوة القانون والأمر، وتصبح الحريات الدينية متاحة  فلا يتغلب دين على دين أو طائفة على طائفة ، والكل في هذه الحالة يتمتع بحماية قانون الدولة دون استثناءات تذكر، فتغدو التقوى والدين مقتصرة على العدل والإحسان مع احتفاظ كل فرد بحرية في التفكير والتعبير، وبهذه الطريقة يمكن للسلام أن يصبح هو الميزة الغالبة للبيئة السياسية للدولة وفق إستراتيجية الانصياع الكامل للسلطة في مقابل أن تفسح السلطة العليا المجال للحرية الفردية في ان تأخذ مساحتها في التعبير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

 علي حسين منذ ان ظهرت الديمقراطية التوافقية في بلاد الرافدين ،والمواطنونالعراقيون يبحثون عن مسؤول مختلف يمنحونه ثقتهم، وهم مطمئنون ، رغم أنهم يدركون أنّ معظم السياسيين ومعهم المسؤولين يتعاملون مع المناصب على أنها...
علي حسين

قناطر: ليلُ العشَّار الطويل

طالب عبد العزيز يحلَّ الليلُ باكراً في أزقّة العشَّار، أزقته القصيرة والضيقة، التي تلتفُّ عليه من حدود شبه جزيرة الداكير الى ساحة أم البروم، يحدث ذلك منذ سنوات الحرب مع إيران، يوم كانت القذائفُ...
طالب عبد العزيز

محاسبة نتنياهو وغالانت أمام محكمة الجنايات الدولية اختبار لمصداقية المجتمع الدولي

د. أحمد عبد الرزاق شكارة يوم عظيم انتصاراللعدل عبارة تنم عن وصف واضح مركز ساقه الاستاذ المحامي الفلسطيني راجي صوراني عن طبيعة الدور الايجابي المؤثر للمحكمة الجنائية الدولية متمثلا بإصدار مذكرتي القاء القبض تخص...
د. أحمد عبد الرزاق شكارة

الاندماج في العراق؟

أحمد القاسمي عندما نسمع بمصطلح الاندماج يخطر بأذهاننا دمج الأجانب المقيمين في بلد ما. فاستخدام هذا المصطلح بات شائعا منذ بضعة عقود في الغرب ويُستخدَم غالبا عند الحديث عن جهود الدولة أو مؤسسات المجتمع...
أحمد القاسمي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram