السلم انفعال نفسيّ يقترن مع الإنسان، ترافقه حالة من الهدوء الذاتي والطمأنينة، والذي عمم ليتحول إلى انفعال سياسي يرافق الدول بعد مرورها بأزمات الحرب، فالسلم كما يعرف انه المدة الزمنية بين حربين، نجد أن مونتسكيو يحدده على انه الحالة التي يعد فيها الملك كل عدته العسكرية والجيوش إذا ما حاق بشعوبه خطر الإبادة.
اذن هو في كل الحالات نوع من أنواع السكون المشوب بالحذر والقلق والذي يمكن لأي عارض أن يسبب بتحوله من سلم إلى حرب أو صراع، وهذا القلق المرافق هو الدافع الأول الذي جعل الكثير من الفلاسفة يقنون السلم كما قننوا الحرب ليأخذ اكبر مساحة زمنية ممكنة خلال عمر الفرد والدولة. وتأخذ تشريعات السلم أشكالا عدة تتنوع بين علاقة الفرد بنفسه وتنتهي بعلاقة الفرد مع الدولة من جهة، والعلاقات الخارجية التي تبنيها الدولة مع الدول الاخرى وفق مصالحها المشتركة في ادامة السلم من جهة أخرى.
قد اخذ اسبينوزا بالحسبان كل هذه الأوجه لتقييم نظرية السلم داخل الدولة التي اعتمدها كأفضل أنواع الدول، تلك الدولة التي يكون دور الحاكم فيها مطلقاً في تدبير شؤون الدولة أياً كانت شكل قوانينه، متبنيا فكرة ان الشعوب عليها ان تخضع لمشيئة الحاكم لانها غير قادرة على الدفاع عن حقها دون ان تحدث فرقة وإسقاط لنظام الحكم، فخضوعهم سواء أكان من ضرورة أو من العقل فإن المنطق يستدعي الإبقاء على الحاكم لان في بقائهِ ((تجنب لشر أعظم وأملاً في خير أكبر)).
من جانب آخر يبين اسبينوزا أن فكرة خضوع الفرد وإطاعته المطلقة للحاكم هي فكرة قابلة للتغيير، فيستطيع الفرد أن يواجهه خطر الخضوع بسهولة، لان الحاكم لا يكتسب الحق في ان يأمر بما يشاء إلا بقدر ما يملك السلطة العليا بالفعل، فإذا فقدها فقد في الوقت ذاته الحق في الامر، وتحول هذا الحق إلى من يستطيع المحافظة عليه.
وقد ركز اسبينوزا على تعريف مفهوم العدو لينطلق من تعرفيه في تحديد شرعية أي تمرد على الحكومة وقوانينها، بالقول إن العدو ((هو الذي يعيش خارج أمة معينة، ولا يعترف بسلطتها بوصفه حليفاً لها، أو واحداً من رعاياها))، فأذن العدو يمكن له أن يأخذ شكل مواطن أو دولة، مواطن عندما تكون قوانين الدولة ضده ، ودولة عندما لا تعترف بسلطة الأخرى أو تلحق بها الضرر، هنا يظهر دور الحرب حيث يحق للدولة أن ترغم معارضيها على إطاعتها أو التحالف معها بكل ما لديها من وسائل.
مما جعل مسألة الطعن بالسيادة أو التمرد على الدولة من الأفعال المرفوضة في نظرية اسبينوزا للسلم، سواء أكانت النتيجة سلبية أم ايجابية يبقى من مارس فعل الطعن مجرم يستحق العقاب بالقانون، ولا يرتكب هكذا نوع من التمرد إلا المواطنين الذين فوضوا مسبقاً كل حقهم لذات الدولة أو السلطة، فهذا التخويل الذي منحه الفرد للدولة لا يحق له الإخلال به لأنه التزام مطلق، وكل من يعمل خلاف ذلك مدان، لذلك على الفرد تحمل مسؤولية اختياره وتنازله عن حقه في تسييس الدولة إلى السلطة العليا المسؤولة.
في المقابل ركز على حق الفرد ذاته في حريته وأولها حريته الفكرية لان سياق عمل الحرية الاسبينوزية يتجه نحو إنتاج السلام الذي يكفل الأمن والأمان للمجتمعات، فكما أعطى سلطة متنفذة طالب بالمقابل بحرية متنفذة أيضاً للفرد باعتبارها حقا طبيعيا لا يتعارض مع نظام الطبيعة وضرورتها، بالتالي لن يتعارض مع نظام الدولة ونوع حكمها بل على العكس سيوفر لأمن الدولة الاستمرارية في عملهِ ويكون الولاء هو الصفة الغالبية ضمن هكذا مجتمع أو حكومة، ذلك الولاء الممنوح لا الولاء المغصوب، الذي تكون من نتائجه السلم وأول خطواته هي الاستماع.
وهذا ما جعل اهتمام اسبينوزا ينصب بشكل كبير في مسألة الدين والدولة وشكل العلاقة التي تربط بينهما، وحدود شرعية الدين، فهو يرى أن الجدل الديني قد سير الدول إلى الفتن والانقلابات، حينما يكون خاضع التقييم القضائي على معتقدات المحكومين لا على مواقفهم واتجاهاتهم الإنسانية، فقد تعمد على جعل من صلاحيات السلطة العليا اي الدولة تدبير الامور الدينية والدنيوية على السواء، لان السلطة العليا الحاكمة هي المنظم الأخير لتفسير وحماية القانون الإلهي ذلك القانون المنظم لشؤون الدين، لان حكم الله في الأرض لا يباشر كحكم على البشر إلا بواسطة السلطة السياسية، فالقانون الإلهي يطلب نفوذه عندما يأخذ العمل بالعدل والإحسان قوة القانون والأمر، وتصبح الحريات الدينية متاحة فلا يتغلب دين على دين أو طائفة على طائفة ، والكل في هذه الحالة يتمتع بحماية قانون الدولة دون استثناءات تذكر، فتغدو التقوى والدين مقتصرة على العدل والإحسان مع احتفاظ كل فرد بحرية في التفكير والتعبير، وبهذه الطريقة يمكن للسلام أن يصبح هو الميزة الغالبة للبيئة السياسية للدولة وفق إستراتيجية الانصياع الكامل للسلطة في مقابل أن تفسح السلطة العليا المجال للحرية الفردية في ان تأخذ مساحتها في التعبير.
السلم وحتمية الانصياع للدولة عند اسبينوزا
[post-views]
نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م