TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الدولة وشبح الدولة

الدولة وشبح الدولة

نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م

  يعقوب يوسف جبر

في العالم وعبر التاريخ يبرز نمطان للدولة؛ الأول الدولة النموذجية (دولة الحقوق ....ودولة المواطن المدني المثالي ....الدولة الدستورية القائمة على العدل) والنمط الثاني شبح الدولة (دولة فوضوية ....... هيكل الفساد والعبث ....... دولة الوصوليين والفاسدين ...... دولة الظلم والجور) بهذه الشاكلة برزت الدول وتصنفت وحفرت ملامحها في وجه التاريخ، ثمة من يعتقد بأن التاريخ قد ضم بين طياته شبح الدولة؟  هل يمكن لنا أن نعتبر رأي "شتيرنر" مثالا لهذا التصنيف (دولة الفوضى)؟ يذهب شتيرنر إلى أن إقامة الحق ودولته ومجتمعه بصورة مثالية أمر مستحيل لأن الروح الفردية هي الطاغية على كل الحاكمين، فلن تجد حاكما تمكن من التحرر من هذه الروح الاستبدادية، لأن فرض تخليه عن هذا الاتجاه يعني اعتقاده جزافا أنه تنازل عن مصالحه ومصالح جماعته وأتباعه وآثر بها لغيره.
الحقيقة المنطقية أن هذا التنازل على فرض وقوعه فهو يعني التضحية ببعض المصالح الخاصة غير المشروعة مقابل الحفاظ على المصلحة العامة، حسب الأهمية بالنسبة للمصالح. فالمصلحة العامة في بعض الأحيان تشكل الأساس المتين لقيام دولة الإنسان لكن حدود هذه المصلحة لابد أن تتحدد دستوريا، حتى لا تتصادم مع المصالح الخاصة.
لو تناولنا الواقع السياسي القريب والبعيد المكتظ بالعديد من الأحداث السياسية خلال تاريخ العراق الحديث؛ لوجدنا أن هنالك مستبدين كثيرين لم يتمكنوا من بلوغ الكمال الفكري والنفسي في مجال ثقافة الإيثار، إنما كانوا يفضلون، بل يتمسكون بثقافة الاستئثار على حساب الآخرين طمعا وجشعا وإرضاء لغريزة حب الذات التي تولد مع الفرد، لكنها تحتاج إلى ترويض وتهذيب لكي لا تكون الدافع الوحيد في تحريك الفرد، إنما يجب تنمية الدافع الجماعي وإيثار المصلحة العامة على الخاصة لتنتظم الحياة السياسية وتصبح مضمارا للتنافس الشريف وليس حلبة للصراع العقيم الذي يهدد المجتمع ويسلب منه استقراره.
ما يحدث في العراق اليوم  بين السياسيين، صراع عنيف جدا لم يبدأ منذ التاسع من نيسان عام 2003 فقط إنما يمتد عمره إلى العقود الماضية، وهو يشكل ظاهرة اجتماعية سياسية شاذة تعكس تدهورا كبيرا في مجال نضوج العقل السياسي، أو هو ينم عن تطاحن عنيف بين مجموعة من الفرقاء حول تركة أو إرث قد وصل بعض الأحيان إلى مستوى سفك الدماء.
كم من الدماء أريقت؟ وكم هي الأرواح التي أزهقت؟ من أجل من؟ هل من أجل المصلحة العامة؟... كلا بل من أجل نزوة عابرة يطمح حاكم مستبد لتلبيتها. حاكم لا يمكنه التخلي عن نزعة التسلط، ومعنى ذلك أن نظرية "شتيرنر" واقعية ومنطقية عندما لا يبرز حكام عادلون يستحقون منزلة قيادة المجتمع وإدارة شؤون الدولة، إنما يوجد حكام ظالمون يعبثون بمصير البلاد والعباد. كما يمكننا القول لا يوجد حكام كفء يملكون القدرة على تطبيع الأوضاع وتجسيد العدل دستوريا، بل يوجد حكام قاصرون يفتقرون إلى التجربة والخبرة السياسية والحزم تجاه المواقف الصعبة.
اليوم يشعر العديد من المواطنين أن دورهم بات هامشيا، فلا يمكنهم الضغط لتسوية الأزمات السياسية التي يتبارى في ساحتها السياسيون، وإذا كانت الصورة بهذا الاتجاه فمن حقهم أن يقاطعوا الانتخابات في المرة القادمة وأن يتقمصوا شخصية "شتيرنر" ويقتدوا به فكريا وسياسيا ما داموا خارج إطار التأثير، وهم محقون بسبب حرمانهم من المشاركة في صنع القرار السياسي إلا بصورة شكلية رغم أنهم يمثلون الثقل الاجتماعي والسياسي الحقيقي لو كان ثمة عدل وإنصاف، كما أنهم يشعرون بالغبن لأن الكثير، بل أغلب حقوقهم في هذه الوطن مسلوبة، ولا تحتاج هذه الحقيقة إلى برهان، فثمة الملايين من الفقراء والمعوزين واليتامى والأرامل والثكالى والمعوقين وكذلك الأميين ولا ننسى الملايين ممن لا يجدون حتى يومنا هذا مسكنا ملكا صرفا لهم .
إنها مهزلة تستحق النظر، وسخرية تستدعي الضحك والقهقهة، ونموذج واضح للفوضوية السياسية تفوق فوضوية "شتيرنر" الذي لو كان عراقيا يعيش بيننا الآن لمات كمدا أو انتحارا، ومن يدري قد يصبح رمزا ومثلا أعلى تحدق به ثلة من اليائسين من قيام دولة عادلة وحرة، وكيف يمكن لنا تصور ذلك القيام والملايين منا يقتاتون على نفايات السياسيين الأثرياء وفتاتهم وبخلهم وجشعهم، فهل يصح لنا القول إن دولتنا الحالية هي دولة الجشع والفوضى؟ ولم لا فالدولة الحقيقية النبيلة هي من تطعم مواطنيها الخبز بالتساوي لا فرق بين زيد وعمر إلا بموجب الاستحقاق الدستوري العادل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram