يعقوب يوسف جبر
في العالم وعبر التاريخ يبرز نمطان للدولة؛ الأول الدولة النموذجية (دولة الحقوق ....ودولة المواطن المدني المثالي ....الدولة الدستورية القائمة على العدل) والنمط الثاني شبح الدولة (دولة فوضوية ....... هيكل الفساد والعبث ....... دولة الوصوليين والفاسدين ...... دولة الظلم والجور) بهذه الشاكلة برزت الدول وتصنفت وحفرت ملامحها في وجه التاريخ، ثمة من يعتقد بأن التاريخ قد ضم بين طياته شبح الدولة؟ هل يمكن لنا أن نعتبر رأي "شتيرنر" مثالا لهذا التصنيف (دولة الفوضى)؟ يذهب شتيرنر إلى أن إقامة الحق ودولته ومجتمعه بصورة مثالية أمر مستحيل لأن الروح الفردية هي الطاغية على كل الحاكمين، فلن تجد حاكما تمكن من التحرر من هذه الروح الاستبدادية، لأن فرض تخليه عن هذا الاتجاه يعني اعتقاده جزافا أنه تنازل عن مصالحه ومصالح جماعته وأتباعه وآثر بها لغيره.
الحقيقة المنطقية أن هذا التنازل على فرض وقوعه فهو يعني التضحية ببعض المصالح الخاصة غير المشروعة مقابل الحفاظ على المصلحة العامة، حسب الأهمية بالنسبة للمصالح. فالمصلحة العامة في بعض الأحيان تشكل الأساس المتين لقيام دولة الإنسان لكن حدود هذه المصلحة لابد أن تتحدد دستوريا، حتى لا تتصادم مع المصالح الخاصة.
لو تناولنا الواقع السياسي القريب والبعيد المكتظ بالعديد من الأحداث السياسية خلال تاريخ العراق الحديث؛ لوجدنا أن هنالك مستبدين كثيرين لم يتمكنوا من بلوغ الكمال الفكري والنفسي في مجال ثقافة الإيثار، إنما كانوا يفضلون، بل يتمسكون بثقافة الاستئثار على حساب الآخرين طمعا وجشعا وإرضاء لغريزة حب الذات التي تولد مع الفرد، لكنها تحتاج إلى ترويض وتهذيب لكي لا تكون الدافع الوحيد في تحريك الفرد، إنما يجب تنمية الدافع الجماعي وإيثار المصلحة العامة على الخاصة لتنتظم الحياة السياسية وتصبح مضمارا للتنافس الشريف وليس حلبة للصراع العقيم الذي يهدد المجتمع ويسلب منه استقراره.
ما يحدث في العراق اليوم بين السياسيين، صراع عنيف جدا لم يبدأ منذ التاسع من نيسان عام 2003 فقط إنما يمتد عمره إلى العقود الماضية، وهو يشكل ظاهرة اجتماعية سياسية شاذة تعكس تدهورا كبيرا في مجال نضوج العقل السياسي، أو هو ينم عن تطاحن عنيف بين مجموعة من الفرقاء حول تركة أو إرث قد وصل بعض الأحيان إلى مستوى سفك الدماء.
كم من الدماء أريقت؟ وكم هي الأرواح التي أزهقت؟ من أجل من؟ هل من أجل المصلحة العامة؟... كلا بل من أجل نزوة عابرة يطمح حاكم مستبد لتلبيتها. حاكم لا يمكنه التخلي عن نزعة التسلط، ومعنى ذلك أن نظرية "شتيرنر" واقعية ومنطقية عندما لا يبرز حكام عادلون يستحقون منزلة قيادة المجتمع وإدارة شؤون الدولة، إنما يوجد حكام ظالمون يعبثون بمصير البلاد والعباد. كما يمكننا القول لا يوجد حكام كفء يملكون القدرة على تطبيع الأوضاع وتجسيد العدل دستوريا، بل يوجد حكام قاصرون يفتقرون إلى التجربة والخبرة السياسية والحزم تجاه المواقف الصعبة.
اليوم يشعر العديد من المواطنين أن دورهم بات هامشيا، فلا يمكنهم الضغط لتسوية الأزمات السياسية التي يتبارى في ساحتها السياسيون، وإذا كانت الصورة بهذا الاتجاه فمن حقهم أن يقاطعوا الانتخابات في المرة القادمة وأن يتقمصوا شخصية "شتيرنر" ويقتدوا به فكريا وسياسيا ما داموا خارج إطار التأثير، وهم محقون بسبب حرمانهم من المشاركة في صنع القرار السياسي إلا بصورة شكلية رغم أنهم يمثلون الثقل الاجتماعي والسياسي الحقيقي لو كان ثمة عدل وإنصاف، كما أنهم يشعرون بالغبن لأن الكثير، بل أغلب حقوقهم في هذه الوطن مسلوبة، ولا تحتاج هذه الحقيقة إلى برهان، فثمة الملايين من الفقراء والمعوزين واليتامى والأرامل والثكالى والمعوقين وكذلك الأميين ولا ننسى الملايين ممن لا يجدون حتى يومنا هذا مسكنا ملكا صرفا لهم .
إنها مهزلة تستحق النظر، وسخرية تستدعي الضحك والقهقهة، ونموذج واضح للفوضوية السياسية تفوق فوضوية "شتيرنر" الذي لو كان عراقيا يعيش بيننا الآن لمات كمدا أو انتحارا، ومن يدري قد يصبح رمزا ومثلا أعلى تحدق به ثلة من اليائسين من قيام دولة عادلة وحرة، وكيف يمكن لنا تصور ذلك القيام والملايين منا يقتاتون على نفايات السياسيين الأثرياء وفتاتهم وبخلهم وجشعهم، فهل يصح لنا القول إن دولتنا الحالية هي دولة الجشع والفوضى؟ ولم لا فالدولة الحقيقية النبيلة هي من تطعم مواطنيها الخبز بالتساوي لا فرق بين زيد وعمر إلا بموجب الاستحقاق الدستوري العادل.