في الأسبوعين الماضيين لم أستطع سوى اختطاط لمحةٍ خاطفة عن "اقتصاديات الثقافة" في العراق ولبنان. تقدِّم تونس بدورها مثالاً عن الموضوع. إذ يتعلق الأمر فيها في آنٍ واحدٍ، بصناعة الكتاب وشرائه وتسويقه، وبالمستوى الثقافيّ العام وارتباطه الوثيق بمجمل عملية التنمية الاقتصادية.
لا جديد بالقول إن الوضع في البلدان العربية يدلّ (كما في تقرير التنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربيّ) على تدهور نسبة القراءة إذ يبلغ متوسط قراءة الفرد الأوروبيّ نحو 200 ساعة سنوياً مقابل 6 دقائق سنوياً للقارئ العربيّ.
في تونس يأخذ الأمر وجهة درامية، ففي استطلاع للرأي أنجزته "اللجنة الوطنية للاستشارة حول الكتاب والمطالعة"، أنّ ثلاثةً من أربعة، يعني ثلاثة أرباع التونسيّين لم تطأ أقدامهم مكتبة عامة، وإن ربع التونسيين، أي أكثر من 22.74 بالمئة، لم يطالعوا كتاباً واحداً طيلة حياتهم. الدراسة أظهرت أن 26.76 بالمئة من المستجوبين طالعوا كتاباً واحداً، وهؤلاء معظمهم من النساء، أو القاطنين في العاصمة وضواحيها ممّن لهم مداخيل مالية معقولة. أما الميزانية المخصّصة لاقتناء الكتب، فتبيّن أن قرابة 44 بالمئة من المطالعين هؤلاء فقط (وليس كلّ التونسيين) ينفقون على الكتاب ما لا يزيد على 24 دولاراً أي ثلاثين ديناراً في السنة. علينا قسمة هذه النسب على اثنين: لأن لغة المطالعة متساوية تقريباً بين اللغتين العربية والفرنسية. تشمل الإحصائيات أعلاه المثقفين التونسيين، كتّاباً وروائيين وشعراء وصحفيين وأساتذة جامعيين.
من جهتها تفيد إحصائيات إدارة المطالعة بوزارة الثقافة التونسية أن المكتبات العمومية تفقد يوماً بعد يوم أعداداً متزايدة من روّادها، فقد بلغ عدد الاشتراكات في 2009 أكثر من 142 ألف مشترك في حين كان عدد المتردّدين على المكتبات سنة 1994 حوالي 420 ألف شخص. لا يتعدّى الرقم الوطنيّ في مجال نسبة مطالعة المواطن للكتاب معدّل 1.02 كتاب. وأكثر من 90 بالمئة ممن يرتادون المكتبات هم من التلاميذ والطلبة للتحضير للامتحانات، وليس للاستزادة المعرفية.
يؤثر كل ذلك على صناعة وتسويق الكتاب المكتفية بذاتها في تونس، بسبب سياسة الحماية الصارمة التي لا تسمح بتصدير العملة الصعبة حتى لو تعلق الأمر بشراءٍ شخصيّ للكتب من خارج البلاد، وهو ما يؤثر بقوة على مستوى الجامعات الذي يشهد المزيد من التراجع، هي التي تضخّ سنوياً آلاف الأيدي العاملة، غير الكفء دائماً، لسوق العمل.
إن المنسيّ في تحليلات المعلقين على تلك الإحصائيات هو أن القضية لا ترتبط فقط بالقدرة الشرائية للمواطنين ولا بغلاء الكتب، وهو ما يصرّون عليه لتبرير المعطيات الإحصائية. المواطن نفسه يشتري الكحول بسخاء أكثر من الكتب. ففي أحدث بيانات منظمة الصحة العالمية: "قائمة الدول حسب استهلاك المشروبات الكحولية للفرد" أن تونس تحوز الدرجة 153 من بين 191 دولة في العالم. أنها تقف في منتصف الطريق عالمياً. وقد سجّلت شركة إنتاج المشروباتِ الكحولية التونسية عام 2012 ارتفاعاً يُقدَّر بـ 20 بالمئة مقارنة مع العامِ الماضي. في دراسة أخرى أنجزها مكتب للدراسات الأجنبية ونشرتها الأسبوعية الفرنكفونية المغربية «لافي إكونومي» أن حجم استهلاك المغرب العربيّ مجتمِعاً من جميع أنواع الخمور ناهز 117 مليون لتر خلال سنة 2010. وأشارت الدراسة إلى نسبة استهلاك للخمور في تونس يومها هي 10 لترات للفرد في السنة، وتكلفة هذه النسبة تقارِب أو تتجاوَز الثلاثين ديناراً التي يدفعها القارئ التونسيّ النادر لشراء الكتب سنوياً.
رغم ذاك يشير متخصّصو الاقتصاد، بسعادةٍ، إلى بيان المعهد الوطنيّ للإحصاء القائل إنّ الاقتصاد التونسيّ حقّق نسبة (نمو) بلغت 3.3% خلال النصف الأول من العام الجاري 2012. هذا الرقم مخادِع إذا التقِط بشكلٍ تجريديّ، إذ لا علاقة له (بالتنمية). وشتان بين مفهوميْ (النمو) و(التنمية). الثاني يتضمّن الأول ويضعه في إطار ازدهارٍ اجتماعيّ وخدميّ وتعليميّ وثقافيّ، وهو ما يغيب في "اقتصاد الثقافة" في تونس العزيزة مثالنا.
اقتصاديات الثقافة مرة ثالثة... تونس مثالاً
[post-views]
نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...