إخلاص جبار ناصر في كثير من الكتابات حول هذا الموضوع خاصة في أوروبا و الولايات المتحدة فسرت العولمة باعتبارها نتاجاً لتكثيف المكان و الزمان، بمعنى تضاؤل المسافات بين أنحاء العالم المختلفة أو التواتر في سرعة الزمن. هذا التواتر للسرعة محكوم بالتكنولوجيا الحديثة ،مما يعني أن الحدود الحالية يمكن إعادة صياغتها أو حتى إنكارها بالمرة. كما أن التوسع المكاني
و السرعة الزمنية يتطلبان بالضرورة تكوين ما يسمى بالمعايير العالمية. الأمر الذي يقود بالتالي إلى توحيد طرق الحياة و المناهج المختلفة لترتيب النظام الاجتماعي و هو ما يكون له تأثير مباشر على التحول في السياسة و الاقتصاد.مع بداية الأزمنة الحديثة و جو العالم نفسه أمام تطور تنطوي على مفارقة تتمثل في بزوغ الرأسمالية و ما تعنيه من نظام عالمي اقتصادي بالأساس من ناحية و ظهور الدولة القومية الحديثة من ناحية أخرى ،في حين عمد التفكير الاقتصادي إلى إلغاء الحدود الموضوعة على توسع التراكم الرأسمالي ،فقد فرضت الدولة القومية وضع الحدود الاقتصادية. وكانت السياسة تعني وضع القواعد و الحدود في حين كان الاقتصاد يعني دائماً التخلي عن هذه الحدود.اليوم ارتبط الاقتصاد بالعولمة في حين ظلت السياسة محلية، ممكنة التحقيق فقط في ظل حدود المكان و على مستوى إقليمي. الأمر الذي كان له آثار هائلة على النظام الديمقراطي. العولمة تحول و تعيد تنظيم العلاقة بين السياسة و الاقتصاد. هذه التحولات لها تأثير مباشر على إجراءات اتخاذ القرار ديمقراطياً لأن الديمقراطية تحتاج لوقت. فعندما يقرر البشر مصير قضايا مشتركة في مجتمع ما، يتطلب ذلك بعض الوقت و لا يمكن اتخاذ قرار ديمقراطي في وقت واقعي كما يفعل صانعو القرار الاقتصادي الرأسماليون في استجاباتهم السريعة للسوق. فالوقت يترجم بلغة الاقتصاد إلى مال، أما الديمقراطية فتحتاج للوقت حتى يستطيع الناس مناقشة القضايا مناقشة جدية. إن منطق العولمة الرأسمالي هو بدقة نشر و تكريس البعد الاقتصادي على مستوى العالم، مسلماً عناصر السياسة و الايديولوجيا لمقتضيات الاقتصاد.إن تيار العولمة المتسارع حالياً يهدد النظام الديمقراطي من أساسه. فبسبب سيطرة فاعلية الاقتصاديين و عقلانيتهم الاقتصادية البحتة نشهد الآن في السنوات الأولى من القرن 21 نمو وحدات اقتصادية للشركات عابرة الحدود بالغة القوة و هائلة الحجم تتشكل و تتوسع عن طريق عملية التركيز merging الهائلة و التي لم يكن من الممكن تخيلها من قبل 10 أو 15 عاماً. لم يعد هناك الفصل التخصصي الضروري بين اتخاذ كل من القرارين الاقتصادي و السياسي و هو واحد من أهم شروط الديمقراطية.يسعى هؤلاء الفاعلون الكبار global player في الاقتصاد الى نمو عقلانية مختلفة في الأساس بل متناقضة مع عقلانية و منطق الفاعلية في السياسة. إنهم يتجاوبون فقط مع مصالح حاملي أسهمهم share holder و ليس مصالح المواطنين عموماً. إنهم يسعون إلى المصالح العاجلة و ليس الآجلة لمجتمع سياسي و اجتماعي. كما أنهم يستخدمون المال في التأثير على القرار السياسي، الأمر الذي يمكن تسميته بصراحة "الفساد".في اجواء ازمة نمط النمو الرأسمالي المعروف بنمط دولة الرعاية او الاشتراكية الديمقراطية، وكذلك ازمة التنمية في بلدان حركة التحرر الوطني وبلدان الجنوب بعامة، وازمة النمو في البلدان الشيوعية صعدت الى واجهة المسرح قوى اليمين، ففي عام 1979-1980م تسلم المحافظون الحكم في انكلترا (حكومة مارغريت تاتشر) وفي امريكا (رئاسة رونالد ريغان) أحدث ذلك انقلابات في المفاهيم وموازين القوى، وأخذت كلمة عولمة تنتشر خلال الثمانينات في اوساط رجال الاعمال، الى جانب كلمة تدويل او بدلاً منها، ربما تعبيراً عن مطامحهم لبسط نشاطهم على مستوى الكرة الارضية كلها.وقد شنت هذه القوى هجوماً كاسحاً على البلدان الاشتراكية (سباق التسلح وحرب النجوم) وعلى النقابات العمالية (قمع إضرابات عمال المناجم في انكلترا من قبل حكومة تاتشر، وقمع إضرابات عمال النقل الجوي في الولايات المتحدة الأمريكية من قبل حكومة ريغان)، وعلى بلدان التحرر الوطني ومنظماتها، وعلى قوى اليسار في كل مكان، وعلى المنظمات العالمية والأمم المتحدة ذاتها، وفي النصف الثاني من الثمانينات انطلق من قبل الأزمة والتحديات العالمية، مشروع البرسترويكا السوفيتي الذي قدم نفسه باعتباره يحمل للعالم اجمع بشرى إعلان نظام عالمي جديد يقوم على مفاهيم السلام والأمن ونزع التسلح واحترام القيم الإنسانية: مثل حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، والديمقراطية، وحرية الاختيار والتعاون والتفاهم بين الدول. وصفقت لهذا المشروع بحماسة وأمل شعوب الأرض شرقاً وغرباً.غير ان قوى اليمين الأميركي، والعالمي بعامة، نجحت في احتواء وخنق الاتحاد السوفيتي والبرسترويكا معاً لاسباب لا مجال لذكرها هنا، وقد كان للحركة الصهيونية وعملائها دور مهم في هذه الأحداث، ومع انهيار البرسترويكا والدول الاشتراكية في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، انهارت عبارة النظام العالمي الجديد ايضاً، الا ان الرئيس الأمريكي جورج بوش الاب استعاد العبارة ذاتها في خطابه امام العالم في نهاية حرب الخليج الثانية وهزيمة النظام العراقي، لكن العبارة ولدت ميتة في فمه وما لبث ان أهملها فعلاً ليعلن بدلاً منها
العولمة أم عالمية النظام الرأسمالي (أمركة العالم)؟
نشر في: 8 يونيو, 2011: 05:30 م