فخري كريم
ليس منطقياً أن يرد في خاطري، في زمن انهيار الدكتاتوريات والأنظمة المستبدة، حافز الكتابة عن هذا الموضوع،
وقد أصبحت الدكتاتوريات تتقاذفها إرادات الشعوب في منطقتنا التي ظلت أسيرة سطوتها لعقود في تاريخنا الحديث ولقرون في تاريخ من الاستبداد والدم واغتصاب السلطة ودحر الجماهير.
لكن خلاف المنطق، في زمن ضياع الحقيقة وخراب النفوس منطق، ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان من العبث استذكار التاريخ البعيد ومحاولة استدراج أحداثه ومطّها كيفما شئنا، لنكيّفها وفقاً للحالة التي نريد تسويقها، وعلى مقاسات عقولنا ووعينا ومصالح أولياء أمورنا من الحكام والقادة .
وسأفترض أن الخاطر الذي قفز إلى ذهني إنما هو وليد العواصف التي تقتلع أنظمة استبدادية من حولنا وتجبرنا على التأمل في دروسها وتأثيراتها، ولا بد من الإشارة إلى أن الديمقراطية حتى وان اتخذت طابعاً جنينياً هشاً، تظل ضمانة تحول دون ارتداد الأمور إلى مجرى خارج سياقات التوجه الديمقراطي، أفلا يظل هاجس الارتداد، والتجربة تواجه أقسى ضروب التحديات، والصراع بين القوى المعنية بالحراك الديمقراطي، يستنفد طاقات الجميع ويخدر وعيها ، ويستهلك اهتمامها بما هو ثانويٌ وعرضي رغم أهميته وحيويته .. ؟
قد يظل مع هذا الاستدراك، شيء من الظن، والظن إثمٌ في غير مورده، يدور حول التشبيه والقياس عن الإمكانية من تدهور الأوضاع وانزلاقها إلى موارد التشابك في مجرى الصراع بين المتنافسين، وسعي كلٍ منهم لحسمه باتجاه ما يستجيب لنوازعه، دون اعتبارٍ للأطر الدستورية وكوابحها، التي فشلت في أكثر من مرة، كان آخرها وليس أخيرها في تجاوزها، وإمرار السلة الفاسدة لنواب الرئيس، وتهوين انتحال صفة رسمية .
إنني إذ أتدبر كل هذه التحفظات، وانطلق من سلامة النية في متابعة الظواهر التي تحيط بالعملية السياسية وبأوضاع الناس، وبالاحتمالات التي تتحرك على الإمكانيات الكامنة، أجد في ما التقطه من وقائع وحقائق ومظاهر فساد وتعديات، أرضية للحذر واليقظة من تداعيات ليس بمكنة الدولة المتصدعة والهشة ، والدستور المنتهك، والمفاهيم المتضاربة حول كل عنصر في الحياة السياسية، أن تشكل ضمانة للحيلولة دون الانحراف عن المسار الديمقراطي، بل تفكيك نزعات الهيمنة والتسلط .
إن مشروع الدكتاتور في الحزب يبدأ من نمو الإحساس بغياب البديل عما هو قائم، تحت أي ظرفٍ كان .
والدكتاتور كحالة كامنة ونزوع للسيطرة على السلطة ينمو في بيئة الفوضى والخراب وتقاطع الخيارات، مثلما يتسلل من تحولٍ انعطافيٍ في الاتجاهين، صعوداً تحت شعارات التقدم والتطور، او هبوطاً الى قاع الارتداد وانهيار القيم والمثل.
ويظل السيد في البيت والأسرة مشروعاً للتحكم وضبط الإيقاع .
والدكتاتور في الدولة والحياة السياسية، " منقذاً " و " ضرورة تاريخية " ..
وفي الحزب " زعيماً مجرباً لا بديل عنه "...
وفي البيت " سيداً للحفاظ على الشرف ، ودرء الرذيلة " ..
هل علينا، رغم أن بيئة العراق في إطار دولة تنازع كل التحديات لتكرس وجهة ديمقراطية، أن تتسلح بالمعرفة لنحبط أي نزوع نحو الاستبداد، ونحن نغرق في أوحال الفساد والضغائن والتربصات المتبادلة ...و نتعثر أينما يممّنا وجوهنا في الوزارات ومؤسسات الدولة ومرافقها بنماذج تتحين الفرص لإذلالنا والحط من قيمة إنسانيتنا وهدر كراماتنا ..
لنبحث عن جذور التسلط والاستبداد في تلك الوجوه، ونفرد لكل منها مساحة في ذاكرتنا لنقاوم تداعياتها ..
ومثل كل الصناعات، فان للدكتاتورية مادتها الخام وبذرتها التي تكمن لنا في رحم الأحداث وبيئتها المناسبة، ونحن، خلافا لأي صناعة أخرى، حوافز انبعاثها ومنتجو سلعتها ومستهلكوها. وهي لا تنمو في الفراغ، خارج البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المناسبة لبعثها. فاندفاعتها تخترق حواجزنا الرخوة بحكم الخدر والإبهار الذي يترافق مع ظهورها، فتزيح من أمامها، بقوة اندفاعتها المثيرة للالتباس، حصاناتنا الثقافية والمعرفية .
واللا منطق كما يظهر اليوم، ما نتابعه من أحداث تخالف أي قياس، تكاد تزعزع قناعاتنا بما للحقيقة من سطوةٍ على العقول والضمائر، وما للوقائع الصلدة من تأثير عليهما، يفوق تأثير كرسي الحكم ومغانمه واستحكاماته التي تشي في لحظات الغرور والغطرسة بالمناعة وراحة البال. فالانهيار العاصف الذي زلزل الأرض تحت كراسي حكام تونس ومصر واليمن، لم يقدم للمخبول القذافي درساً في التوبة او البحث عن مكان آمن يقيه مصير أقرانه الذين يرزحون في المعتقلات او ينتظرون مكاناً لهم فيها، ولم يستقدم مَثَلَهُ الشبحي صدام حسين وما انتهى إليه من مصير هو وأفراد عائلته ومريدوه، مع انه تنبأ بمثل هذا المصير لنفسه ولأقرانه من القادة العرب، حين حذرهم في أول قمة عربية بعد إعدام صدام، من مصيرٍ مماثلٍ ينتظرهم، إن هم لم يواجهوا العاصفة الآتية، ويأخذوا الحذر منها..وكان يريد بتحذيره الدعوة إلى المزيد من امتهان الشعوب، والتحريض على التصدي لإرادتهم بجبروت الطغاة وعسفهم وامتهان كراماتهم لترويضهم على الطاعة المطلقة والصمت.
ذلك الزلزال العاصف لم يقدم العبرةَ لغير القذافي أيضا، ممن تيسّرت لهم السبل أكثر من مرة ليتيقّظوا ويصلحوا حال شعبهم بالركون إلى إرادته وفك أسره، ويتمثلوا درساً شاخصاً لم يصبح تاريخاً بعد، فبددوا الفرصة واستباحوا الدم بالرصاص ورائحة الموت.
الدكتاتورية نظام يستدرج ضحيته الأولى (الدكتاتور نفسه)، وهو في لحظة وعي بما يدور من حوله، ولا يخفي ملامح صورته او نبرات صوته ومخارج كلماته. انه شديد الوضوح وهو يتقدم بخطوات واثقةٍ نحو هدفه، لا يتعثر او يتلوى او يتستر، إذ يدرك أن ذلك يوحي بالضعف، ليوقظ حاسة الشك في نفوس ضحاياه وفرائسه والزمر المحيطة به.
قد يأتي الدكتاتور من المجهول، فلا يثير شكاً، لأنه لا يرمز لماضٍ ينطوي على سلوكٍ فظ، او ينبعث من لحظةٍ عبثية، تلتقي فيها المصادفة والمفاجأة، وقد يتسلل من بين أنقاض حزبٍ تفككت مشداته، ولم يتسن له استعادة أنفاسه ليعود إلى رشده فيحتكم إلى العقل والمنطق. ومثل هذا الدكتاتور لا يثير الشبهة لأنه مشروطٌ بوضع شديد الالتباس، مرشحٌ للفجيعة، فيظهر كبديلٍ ومنقذ. وفي التاريخ ، نماذج من كل لون، مستبد عادل، ووطني مستبد، بهيئةٍ قوميةٍ تارة، ووطنية تارة أخرى، بلبوسٍ دينية او طائفية مقنعةٍ طوراً، واشتراكيةٍ طوراً آخر.
صناعة الدكتاتور لا تقتصر في إنتاجها لنمطٍ لحكم الدولة، بل للتسيّد في الأسرة، كما التسلط في الحزب. والغريب أن الناس أكثر مراساً ووعياً باكتشاف الغش في السوق، لكنهم اقل حيلة في التنبّه للخديعة في عالم السياسة واضعف حساسيةً في التعرف على ملامح الدكتاتور، حتى بعد أن يشتد عوده ولا يخفي نواياه .
لنتمرن على نموذج دكتاتورٍ فارقنا منذ سنوات إلى حتفه، فنعمق وعينا ومداركنا، ونحصن فراستنا السياسية، ونحن نتابع خطواته المتمهلة في الوثوب إلى السلطة المطلقة، في ظروفٍ لم تكن ممهدة، إذا أخذنا بالاعتبار، وجود دولة متوارثة متكاملة الأركان، وتوزع السلطات والمسؤوليات على مراكز نفوذٍ مهيمنة، وإن بصورة جنينية. ليس هذا مهماً، بل المهم الذي يستحق المتابعة هو الخطوات، وهي معبدة بالدم والتصفيات، لان قوى الصد والمنافسة والرفض كانت مكينة، لن تكتسح لتحقيق مشروع دكتاتورٍ جلاد بغير ما أقدم عليه .
لقد انبعث صدام حسين من رحم منظمة "حنين" السرية التي تخصصت بالتصفيات الجسدية ضد الخصوم و"الرفاق المنافسين" واستقوى من (حنين) بالتنظيم العسكري الحزبي، ثم امتد إلى قيادة لجان وأجهزة العمل الأمني، واستكمل مسيرته بإزاحة منافسيه باحتلال موقع النائب في البعث والدولة. لكنه لم ير في كل هذا الذي تحقق له سبباً كافياً لبسط نفوذه، فانفرد في إحكام سيطرته على المكتب القومي للإعلام والثقافة ..!
إن طريقاً سالكاً تعبد أمامه لكي يحكم سيطرته المطلقة على البلاد، لكنه تعفف عن الاستعجال، وواصل التمهيد لقفزته الكبرى ليستكمل استحكاماته، وليرسي أسس استبدادٍ مطلق.
فكيف تحقق له ذلك ...؟
توسيع الأجهزة الأمنية وتعزيز دورها وصلاحياتها المطلقة وإحكام سيطرته عليها.
تكريس حضوره الإعلامي اليومي والثقافي وسد المنافذ أمام أي اختراقٍ لها بوضعها تحت قيادته اليومية المباشرة.
إعادة الاصطفاف في مراكز الدولة الحساسة وأجهزة الحكم، بإبعاد وتهميش وتصفية منافسيه وخصومه "المفترضين".
البدء بتقريب حاشية موالية، وإحاطة نفسه بأفرادها، ثم بأفراد من العشيرة ثم بالعائلة لينتهي بوضع الأخوة الأشقاء في المراكز المهيمنة القمعية، ويتوج سلسلة الزحف بتأهيل الابنين على مقربة منه، بعيداً عن الأنظار أولا ثم الى السلطة على رحابة مجالاتها ...
لم يكن ممكناً لذلك أن يتم، لو أن كل من كان يعنيه الأمر من داخل دائرته الحزبية، ومن الأحزاب والمثقفين والناس الأسوياء، أن ينتبه أولا مع أول بادرة لظهور ملامح مشروع الدكتاتور، ثم يتحرك ولو بلسانه، ولم يكن ذلك من الصعوبة، لو أن الجميع لم يتخدروا بمظاهر التسلل التدريجي، ويبرروا صعوده، سياسياً او إيديولوجيا ..
صناعة الدكتاتور تتطلب مادة خاما وبيئة سياسية متفسخة او فاسدة .
والدكتاتور سريع الاستجابة لمتطلبات كل حالة موصوفة، فيتكّيفُ وفقاً لشروطها ...
فهل بيئتنا الفاسدة ظرفٌ ملائم لصناعة دكتاتور ومستبد ..؟
تلفتوا حولكم وابحثوا عن ملامح مشروع دكتاتور ومستبد، وتمعنوا في من يحيط به وكيف يختار حوارييه، وكم يركز من السلطات بيده ..
ابحثوا حولكم في كل وزارة وكتلة وحزب، ولا تغضوا الطرف، لأنكم بذلك ستفقدون المبادرة في كشف المستور وتضيع عليكم فرصة تجنب الموت والخراب، قبل فوات الأوان...
الصمت واللا مبالاة مادة صناعة الدكتاتور.
ولقد انتهكت الدكتاتوريات المتعاقبة طوال عقود كراماتنا وهدت إرادتنا.....
الذي يخشى من تحوله إلى دكتاتور والذين يخشون من التورط بدكتاتور يمكنهم التأمل صامتين..وبعد هذا سيكتشف ويكتشفون أنه لن يعود الصمت ملائماً.