علي عبد الأمير عجامصحيح ان من الواجب استذكار المثقفين الراحلين انطلاقا من فكرة "اذكروا محاسن موتاكم" الا انه صحيح أيضاً استذكارهم وفق سجال معرفي بحسب كونهم أصحاب أفكار ونتاج فني، ومن هنا تبدو استعادة اعمال الموسيقار اللبناني وليد غلمية الذي رحل الأسبوع الماضي،
ضرورة ملحة لاسيما ان عماد تلك الأعمال كانت قد تشكلت في العراق ولحساب المؤسسة الثقافية للنظام السابق.وما يبدو مثيرا للجدل عند غلمية لا أعماله السيمفونية المكتوبة لوظيفة محددة تنصب في خدمة ثقافة النظام العراقي السابق وحسب، بل مواقفه التي يسخر فيها من الموسيقى العربية. ان من حق موسيقيين عرب ممن كتبوا الانغام ووضعوها وفق الاشكال " الكلاسيكية" الغربية، كما فعل غلمية، ان يعتبروا بيتهوفن او باخ وكل النتاج الموسيقي الأوروبي، قياسا خاصا بهم يقرأون وفقه الموسيقى وما غيرها من الأنغام، ولكن ليس من حقهم النظر باستهجان للموسيقى العربية، حين يرون في نتاج محمد عبد الوهاب والرحابنة وغيرهم ممن تركوا علامات عميقة ومؤثرة في النغم العربي خلال القرن الفائت، نتاجا اقل شأنا، فهم يقارنون بين مضمونين موسيقيين مختلفين تماما، فموسيقى النهضة الأوروبية وصولا الى القرن العشرين ذات بناء آلي صرف فيما الموسيقى العربية غنائية البناء، والصوت الإنساني جوهرها والبناء الموسيقي الآلي فيها يأتي تاليا، هذا ليس عيبا، كما يعتبره غلمية، بل هو امتياز الموسيقى العربية، ولو اعتبرنا قياس غلمية البنية الآلية الموسيقية المجردة، قياسا للتطور، فستكون الموسيقى الايطالية ( متخلفة ) مثل موسيقانا لأنها وجدت شخصيتها في الأوبرا، وهي شكل موسيقي يعتمد الصوت الإنساني وتقابلاته الوجدانية وتدرجاته المقامية، كما ان الطليان لم ينجزوا ما يعتبره غلمية مثالا وهو السيمفونية الا في حدود ضيقة.وصاحب سيمفونية "المتنبي" وهي من الأعمال التي كتبها لحساب وزارة ثقافة النظام السابق وحاكى في حركتها الاولى، اللحن الأساسي في الحركة الأولى من "شهرزاد" كورساكوف، إذ يقول "ليس في شرقنا العربي مثل هؤلاء الموسيقيين: بيتهوفن، شوبان وباخ، لأن العمل الذي ابدع فيه العرب هو بسيط جدا يصلح للأغنية الشعبية" فانه يغض النظر بطريقة تخلو من الموضوعية لانجاز لافت حققه عبد الوهاب والسنباطي والرحابنة في بناء موسيقي محكم وسم ألحانهم ضمن قالب "الغناء المتقن" وهو قالب غناء قصائد مثل "كليوباترا"، "الجندول"، مثلما أنجز الرحابنة ( عاصي ومنصور ) وليس الأول وحده كما يقول غلمية، "اندلسيات" راقية حاكت الاثر الموسيقي العربي القديم، ونحوا بالقالب إلى اتجاهات تجديدية في عشرات القصائد التي صاغت صورا مدهشة لمدن عربية ومآثر تاريخ وأفكار."ثمة شعوب فرضت بيتهوفن وتشايكوفسكي وباخ على الزمن، اما العرب فلم يفرضوا أسماء على الزمن لان كل ما لديهم مادة استهلاكية" هكذا يقول غلمية، متناسيا ان "فرض الأسماء على الزمن" ليس معتمدا على النتاج الثقافي وحده، فهو مؤشر سوسيولوجي معتمد على حقائق سياسية واجتماعية، ففي حين نهض أولئك كانت مجتمعاتهم معافاة قوية، وهي الأكبر في حركة الأحداث في أوروبا والعالم، وكان العرب حينها تحت أسار سيطرة قوى التخلف والظلام، فمن أين لهم بمعرفة ومن اين لهم بنتاج روحي وحتى لو توفر ذلك بعوامل ذاتية تعاند الحقائق العلمية؟ ومن اين لهم بالقوة الاجتماعية والسياسية التي تقدم معرفتهم و " تفرضها على الزمن" ؟الغريب ان غلمية حين يتناسى هذه الحقائق، يمضي بنا إلى أقصى عزلة معتبرا ان موروثنا الموسيقي متمثل وحسب في "تراث الترتيل السرياني والبيزنطي والقرآني"، فيناقض بذلك مدخله الذي اعتبر موسيقى عبد الوهاب والرحابنة "استهلاكية" اعتمادا عليه، فالبناء الموسيقي لباخ وبيتهوفن وشوبان لم يظل اسير موروث الترتيل الكنسي وابتعد عنه لمسافات قصية، وهو حين ينصحنا بخزين موسيقي فانما ينصح بما هو يمثل أقصى عزلة، فالترتيل الديني يظل لصيقا بالمحافل الضيقة، ولا علاقة له بالحياة.والموسيقار غلمية الذي كتب خصيصا لوزارة الثقافة والإعلام العراقية سيمفونية "الشهيد" التي تخلو من اي معلم لافت سوى انتظام مجموعة من مقطوعات الموسيقى الجنائزية والمارشات، " يتكرم" على الموسيقى العربية فيعتبر محمد عبد الوهاب "اهم المبادرين " لكنه يعود مؤكدا " ولكن لا اعتبره موسيقارا"، ولو عدنا الى تعريف "الموسيقار" بحسب غلمية نجد "الموسيقار هو من يكتب الموسيقى ويقرأها" والثابت ان صاحب "الجندول" يجيد الصفتين اللازمتين لمنح لقب "الموسيقار"، وهنا لا عذر لغلمية في حجب التسمية عن عبد الوهاب غير " نظرته الدونية " الى الموسيقى العربية.وعن الرحابنة يقول صاحب سيمفونية "القادسية" وهي دائما لحساب وزارة الثقافة والاعلام العراقية في حملتها "التعبوية" قبيل إعلان الحرب على ايران، فهي سيمفونية تجسد موسيقيا
في رحيل الموسيقار وليد غلمية: ماذا عن تجربته العراقية؟
نشر في: 10 يونيو, 2011: 07:43 م