منذ أن أطفأت شظية انفجار سيارة مفخخة عينها اليمنى، وقطعت شظية أخرى رابطاً في ركبتها اليسرى، وحمدية محاكم، تلتزم مكاناً واحداً، بعد سنوات من التجوال في شوارع وأسواق واحياء مدينة الموصل، طلباً للصدقة، وصوتها الخشن لا يكف عن الدعاء.
مرت ثمانية اعوام، وهي محافظة على حضورها الصباحي للمكان، قبل أن تفتح محاكم استئناف نينوى أبوابها، تفترش الرصيف قبيل نقطة التفتيش الرئيسية، تبسط كفاً في الهواء، ثم تطلب عطف العابرين، ويرتفع صوتها مع اشتداد الزحام، وينخفض باندراسه.
قالت وهي توزع تقارير طبية متهرئة أمامها على الأرض: " أنا نصف عمياء، وعرجاء، وأعاني من السكري، وضغط الدم، ولكنهم لا يعطونني راتب رعاية"، وتقصد راتب شبكة الرعاية الاجتماعية.
ثم أشارت إلى عناصر من الشرطة على مسافة قريبة وهم مستغرقون في تفتيش الداخلين إلى باحة محاكم الموصل : " الشرطة يعرفون قصتي لذلك يسمحون لي بإلقاء هنا ".
حمدية اكتسبت لقبها، من ملازمتها لشارع المحاكم، وتؤكد ان الناس يكونون أكثر كرماً في الصباح، وأن المحامين، والنساء من مراجعات المحاكم، هم على رأس قائمة المحسنين اليها.
وعلى الرغم من انها بعين واحدة، إلا انها تستطيع تمييز الأغنياء من بعيد، وتغير من كلمات الدعاء والثناء بحسب جنس الشخص وثيابه، وتضيف حمدية محاكم مواصلةً اعترافاتها العفوية : " أنا أعيل أسرة كبيرة العدد تضم أربعة معاقين، اثنان منهم أطفال"، وتؤكد ان عملها فردي، بخلاف معظم المتسولين في الدواسة وباب السراي وباب الطوب والسرجخانة والنبي يونس والمجموعة، الذين وصفتهم بالـ ( حرامية)، وتعني عصابات.
العشرات من المتسولين، ينتشرون مثل حمدية محاكم، مع ساعات الصباح الأولى في أنحاء مدينة الموصل، ليتوزعوا على نحو مدروس في الأسواق التجارية، وقرب المساجد، والتقاطعات المرورية، والدوائر الحكومية، والعيادات الطبية، والجامعة، والمدارس، في ظاهرة يستمر تفاقمها، مع استقرار الوضع الأمني وارتفاع نسبة الفقر بحسب مسؤولين ومتخصصين.
ويرى الكاتب والباحث محب رضوان، أن التسول ممارسة غير مشروعة وكسب دون سبب، يجري تحت أنظار المكلفين بتطبيق القانون، دون اتخاذ أي إجراء، كما هو الحال بالنسبة للمخالفات المرورية، والبيئية، والصحية وسواها من المنظمة بقانون معطل في نينوى بسبب ما مرت بها من ظروف أمنية طوال عقد كامل.
ويعتقد رضوان، ان كلمة مهنة، هو ما ينطبق على ما يقوم به معظم المتسولين، ليس في نينوى فحسب، وإنما في العالم بأسره، ويستدرك" مع بعض الاختلاف في نينوى ".
ويتابع ان فترة التسعينيات من القرن الماضي، وما حدث فيها من حرب، تبعها حصار اقتصادي، أورث نحو ثلث سكان المحافظة البالغ تعدادها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، الفقر، وهذا الفقر، كان بطل الأحداث في أعمال السلب والنهب التي وقت في الموصل يوم سقوط النظام السابق 2003، وكان العامل الرئيسي في تفاقم الفوضى الأمنية بعدها، وما وقع أثنائها من جرائم هزت المجتمع، ودفعت بالآلاف الى الفرار من الموصل، مع التأكيد أن ليس جميع الجرائم التي وقعت في نينوى هي أمنية، بل معظمها جنائي. بحسب رأي محب.
ولفت الى أن عصابات، استغلت حاجة المتسولين، فقامت بتجنيدهم، ليتحول الأمر من عمل فردي بدافع الحاجة، إلى جماعي بطابع إجرامي، كما ان الفترة الماضية، سجلت في وقائع عدة، أن غطاء التسول، كان يلف جرائم جنائية وأمنية على حد سواء، ومدينة الموصل تروى فيها قصص كثيرة بهذا الشأن، والأهالي ينظرون بعين الريبة الى المتسولين جراء ذلك، وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل المتسولين يتوقفون عن التجوال داخل الأحياء السكنية ليطرقوا أبواب المنازل، كما كان يحدث طوال عقود ما قبل الألفية الثانية.
مراد يحيى كريم، موظف في تربية نينوى، يسكن في حي القاهرة شمال مدينة الموصل، ذكر لـ "المدى" ، ان عوائل بأكملها تحترف التسول كانت تسكن في حيه، يعرفهم أهالي المدينة بالـ (قرج)، تعرضوا للاستهداف من قبل مجهولين في أعقاب أحداث 2003، فترك معظمهم الحي، وتفرقوا في مناطق أخرى.
وقال إن النساء فقط، يقمن بالتسول، اما الرجال فيلازمون البيت، او يقومون بأعمال أخرى، والتسول مهنة توارثتها هذه العائلات، المنبوذة من قبل المجتمع.
في شارع المجموعة الثقافي، الممتد على نحو كيلومترين بالتوازي مع جامعة الموصل، يكتظ المكان بالحركة التجارية، طوال ساعات النهار، وهناك تحديداً، ينشط المتسولون، ويبرعون في ابتكار الطرق، للوصول الى جيوب المحسنين.
ويؤكد أصحاب محال هناك، أن المتسولين ومعظمهن إناث، يترجلن من سيارات خاصة صباحاً، وبعضهن يتناولن الإفطار في المطاعم، قبل الشروع في مزاولة ما أسموه بمهنتهن، ثم يجتمعن مساءً لمغادرة المكان.
وذكروا بأن المتسولات في العادة مراهقات، يتشبثن بالعابرين، أو يدخلن على نحو يومي منظم المحال التجارية، أما النساء فيفترشن الرصيف، والأطفال يسرحون ويمرحون في المكان.
ليست شكوكاً ما يعتري أصحاب المحال التجارية هناك، من أن المتسولين، منتظمون فيما يشبه العصابات، يقودها أناس خلف الكواليس في غفلة من الحكومة، ويشير سامي رشيد ، وهو صاحب مكتب لبيع الأجهزة الالكترونية في شارع المجموعة، أن شجاراً بين طفلين متسولين، تحول قبل أسبوع إلى ركل ولكم بين مجموعة من الغرباء، بمشاركة المتسولات المعروفات للجميع في المنطقة.
وقال سامي: " تبين لنا في نهاية الأمر أن المعركة كانت بسبب تجاوز على المكان المخصص للتسول ".
ظاهرة التسول، تأخذ منحى آخر في منطقة السرجخانة، أقدم أسواق الموصل في الجانب الأيمن من المدينة، الذي توجد فيه وعلى سافين متقابلين المئات من محال بيع الألبسة النسائية، والعيادات الطبية ومختبراتها، وهناك، تجتمع الروايات على تورط المتسولين، في جرائم نشل كثيرة، وأبرز ضحاياهم، نساء تنتزع الحقائب منهن، ويختفي الفاعلون بعدها في الزحام.
وذكر الشرطي محمد حازم للمدى، أن حالات عديدة مشابهة، وقعت في ايام ما قبل عيد الأضحى السابق، استغل فيه من وصفهم باللصوص زحام المنطقة الشديد، ونفذوا سرقاتهم، وقال انه مع زملائه، كانوا يحذرون الناس على الداوم ، لكنه لم يؤكد أو ينفي صحة الاتهامات الموجهة ضد المتسولين في اقتراف تلك الجرائم.
غير أن أصحاب المحال، يعرفون الجناة، ويوصون زبوناتهم بالحذر، وقال احدهم وهو ياسر أحمد، أن لصوصاً يمارسون أدوار التسول في السوق، للإيقاع بالضحايا، وأكد هو الآخر أن عصابات تقف وراء الأمر، لأن في الغالب يسمع صوت امرأة ما وهي تصرخ(حقيبتي سرقت)، ولكن دون ان يلمح احد السارق.
بعض المتسولين طوروا عملهم، وصاروا يظهرون وهم يحملون علب المناديل، او الحلوى في التقاطعات المرورية، يحدث هذا وعلى نحو معتاد، في مدخل الجسر الرابع في جهة المدينة الأيسر، وفي تقاطعات السويس والمعارض والمثنى ودورة بغداد والمجموعة والغزلاني، ومناطق أخرى عديدة.
يطرق هؤلاء وهم في العادة صبية، أو نساء، زجاج نوافذ السيارات، أو يدخلون رؤوسهم عبرها، ويلحون في طلب المعونة، بذات العبارات التسولية المعروفة، وسائقو سيارات الاجرة، ورجال المرور، يعرفون تلك الوجوه جيداً، ويستغربون كذلك، بانها ذاتها التي تتواجد كل يوم، وكأن جهة ما، قد خصصتها لهم.
الكاتب والباحث حمزة حسان، يشير الى ان فترة التدهور الأمني في الموصل، وتعطل حركة التجارة، سجلت غياب المتسولين عن شوارع مدينة الموصل، وانتقالهم الى مدن أخرى آمنة، في إقليم كردستان أو الى مدن العراق الجنوبية، ويضيف : " استفحال ظاهرة التسول، أو خلافه، مرتبط بالوضع الأمني": ثم تابع مازحاً : " أصبحت أشعر بالارتياح كلما رأيتهم في الشارع، لأن ذلك دليل على استقرار الوضع الأمني"!!.
ويرى د. وعد إبراهيم، رئيس قسم علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة الموصل، أن هناك أسباباً عديدة لانتشار ظاهرة التسول، منها ضعف الرقابة الحكومية، ووجود العصابات المنظمة التي تحترف هذه المهنة، فضلاً عن انتشار البطالة، والفقر.
وقال د. وعد في حديث للمدى ، أن على الحكومة المركزية، او المحلية، على حد سواء، اتخاذ إجراءات صارمة في معاقبة محترفي التسول من خلال إصدار عقوبات تحد من عودتهم الى ممارسة هذه المهنة.
مع إيجاد دار لإيواء المتسولين الصغار من مجهولي النسب او أطفال الشوارع الذين لا مأوى له ، كما يجب توعية الناس بعدم إعطاء محترفي التسول أية أموال تشجعهم على الاستمرار، والتبليغ عن أية عائلة تحترف هذه المهنة.
و طالب د. وعد إبراهيم، الجهات المعنية باتخاذ إستراتيجية فاعلة للقضاء على مظاهر الفقر في المجتمع العراقي من خلال منح رواتب شبكة الحماية الاجتماعية لمستحقيها وزيادة مبالغ الرواتب لكي تتناسب مع الأسعار السائدة في السوق، بحيث توفر حياة كريمة لمستحقيها، مع توفير فرص عمل مناسبة للمتسولين وبرواتب تغنيهم عن السؤال.
ورداً على ذلك، تقول المهندسة سيل العمري، معاون محافظ نينوى لشؤون التخطيط، في حديثها للمدى، أن نسبة الفقر المسجلة في نينوى قبل سنوات كانت 25%، غير أن كوارث طبيعية حلت بها كالجفاف وما نتج عنه من تصحر في أجزاء منها، إضافة إلى الفيضانات التي دمرت مئات المنازل غربا قبل عامين، رفعتا فضلاً عن عوامل أخرى عديدة، من هذه النسبة، مما دفع المحافظة إلى رصد مبالغ ضمن ميزانية تنمية الأقاليم، لمشروع أعدته وزارة التخطيط عن إستراتيجية مكافحة الفقر.
وبينت العمري، ان المحافظة اقترحت مشاريع عديدة في هذا المشروع الوطني، كبناء منازل واطئة الكلفة، وتوفير فرص العمل للقضاء على البطالة.
قانون العقوبات العراقي النافذ، يعاقب المتسول ومن يدفعه لذلك في المواد 390و 391 و 392 من قانون العقوبات رقم 111لسنة 1969، ويقول المحامي أحمد فتحي، متحدثا الى المدى ، أن المادة 391 تنص على أن يجوز للمحكمة بدلا من الحكم على المتسول بالعقوبة المنصوص علیها في مادة سابقة ان تأمر بايداعه مدة لا تزيد على سنة دارا للتشغیل ان كان قادرا على العمل أو بإيداعه ملجأ أو دارا للعجزة أو مؤسسة خیرية معترفا بها اذا كان عاجزا عن العمل ولا مال لديه يقتات منه.
اما المادة 392، فتنص على " يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة اشهر وبغرامة لا تزيد على خمسین دينارا أو بإحدى هاتین العقوبتین كل من اغرى شخصا لم يتم الثامنة عشرة من عمره على التسول. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة اشهر والغرامة التي لا تزيد على مائة دينار أو احدى هاتین العقوبتین اذا كان الجاني ولیا أو وصیا أو مكلفا برعاية أو ملاحظة ذلك الشخص".
ومن خلال نص المادتين، والكلام للمحامي أحمد، يتضح ان القانون لم يردع التسول بعقوبة صارمة، وإنما بحبس بسيط وبغرامة مالية لا تذكر، كانت ملائمة فقط للعقد الستيني من القرن الماضي، وهذا ما يفسح المجال الآن أمام تفشي الظاهرة، وتناميها كلما ازداد الوضع الاقتصادي صعوبةً. كما ان الجهات التنفيذية، متغاضية حتى عن تنفيذ ما ورد في نص المادتين آنفتي الذكر، ولهذا فان سجلات المحاكم خالية من دعاوى بهذا الصدد، فضلاً عن ان المؤسسات الحكومية عاجزة عن استقبال المتسولين المصابين بعاهة ما او المسنين منهم، ورواتب الرعاية الاجتماعية قليلة هي الاخرى، وغير منتظمة التوزيع،ويقترح المحامي احمد، ان يعاد تشريع القانون، باتجاه الاصلاح الاجتماعي، وإيقاع العقوبة المناسبة، التي تتلاءم مع الوضع العراقي الراهن.
متسولو الموصل ضحايا ومجرمون لا ينصفهم القانون ولا يعاقبهم

نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م