TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > سلطان زمانه

سلطان زمانه

نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م

كان يا ما كان في سالف العصر والزمان بائع دبس في بغداد يستخدم حماره لبيع  بضاعته ،  يجوب الأزقة منذ الصباح الباكر، ولكثرة تجواله عرف الحمار الطريق ونقاط التوقف يوم لم تعرف المدينة إجراءات أمنية مشددة، فكان خير معين لصاحبه فاستحق من بائع الدبس الثناء والشكر والعرفان لجهوده الكبيرة  في الحصول على رزقه اليومي ،  فأصبح  الحمار سلطان زمانه بوصفه عنصرا مهما في توفير دخل الأسرة اليومي.
سلطان زمانه بائع الدبس كان أكثر معرفة من صاحبه في معرفة الأزقة، وتفوق عليه بالنشاط لأنه لا يبدي أي تذمر من التعب والملل، ويتحاشى المرور في طرقات اعتادت خيول قادة الجيش والأمراء ومستشاري السلطان والمقربين منه استخدامها عندما تخرج من قصره إلى أماكن أخرى، وهو يعرف مواقع سكن زبائن صاحبه الراغبين في شراء الدبس صيفا وشتاء حتى أصبح مادة رئيسية لغذائهم لزيادة نشاطهم ونسلهم كما كانوا يعتقدون.
صادف أكثر من مرة أن توجه الحمار بمفرده إلى منزل بائع الدبس تاركا صاحبه مستمتعا بغفوته في ظل نخلة أو جدار، وعندما يصحو من الغفوة الاضطرارية يهرع مسرعا وراء حماره فينهال عليه بالضرب لإدخاله المنزل والحيوان يرفض، وانتهى الاعتداء عندما ظهر صاحب المنزل  فأدرك بائع الدبس انه على خطأ بإجبار حماره على الدخول في بيت جاره وليس منزله، وهذه الحادثة أكدت حقيقة أن الحمار تفوق على صاحبه بالذكاء فاستحق بجدارة أن يكون سلطان زمانه في نظر من سمع بتلك القصة  التي منحت لحمار بائع الدبس شهرة واسعة، وصلت إلى قصر السلطان.
 احد مستشاري السلطان تجرأ في احد الأيام وتحدث في البلاط بحضور جمع كبير من قادة الجيش والأمراء عن قصة حمار بائع الدبس، وسرد تفاصيلها بكل دقة ووسط دهشة الحاضرين واستغربهم من تطاول الرعية على سلطانها والتنكر لعطاياه السخية ودوره في ملاحقة اللصوص وقطاعي الطرق  وانتصاراته  التاريخية على الأعداء عقد اجتماع عاجل وفوري وصدرت  عنه توصيات وقرارات في مقدمتها تقديم بائع الدبس الى القضاء ، ومنع الأهالي من ترديد عبارة سلطان زمانه و تحريم تناول الدبس حتى إشعار آخر، واقترح احدهم تشكيل لجنة تتولى إحصاء الحمير لمعرفة أعدادها وترقيمها، وإجبار أصحابها على تنفيذ الأمر السلطاني القاضي بمنع إطلاق أي اسم على الحمار من دون موافقة الجهات المعنية بهذا الأمر.
 وتنفيذا لمقررات الاجتماع تم القبض على بائع الدبس وحماره، فمثل أمام كبير القضاة في بلاط السلطان بحضور كبار المستشارين، ووجه القاضي سؤالا لبائع الدبس: من سلطان زمانك؟ فقال المتهم من دون تردد: حماري. كرر القاضي السؤال أكثر من مرة  والمتهم يصر على جوابه،  فأثار غضب الحاضرين  وأشهر احدهم سيفه ليقطع رأس المتهم، لكن السلطان منعه من التهور احتراما للقضاء ليقول كلمته الفصل في قضية تهدد الأمن القومي، و قبل النطق بالحكم سمع الجميع صوت نهيق الحمار فصرخ صاحبه: اسمعوا سلطان زمانه،
 وكأنه يريد أن يعطي درسا للحاضرين بأن الرعية تريد سلطانا يرعى مصالحها.
 لكن نظرية بائع الدبس في إدارة الحكم لم يفهمها السلاطين فعاشوا عيشة سعيدة.   

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram