TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حكمة الأسياد الجنوبيين

حكمة الأسياد الجنوبيين

نشر في: 21 ديسمبر, 2012: 08:00 م

هناك أشياء كثيرة تعلمتها من أبي، أبي الذي ينتمي لصنف من شيوخ العشائر القدماء، أولئك الذين يعرفون جيداً بأنهم لا يملكون ما يجعلهم أسياداً على غيرهم سوى رصيدهم من حكمة، حكمة القيادة، التي علمتهم أن الخط الفاصل بين الشدة واللين دقيق وحساس ولا يجب التعامل معه بتهور. خالف توقعاتي في مواطن كثيرة، تصرف فيها على غير ما توجبه الأعراف والتقاليد السائدة. سمعته مرة يأمر زوجاً بأن يتستر على خيانة زوجته، ولما فز الزوج مرعوباً من هول الطلب، اقترب منه بهدوء ليقول له: حاول أن تتخلص من المأزق بحكمة، فقط من أجل شرف بنتيك، وحتى لا يقال عنهما بنات زنى، افتعل أزمة بينك وبين زوجتك وطلقها، لكن بطريقة تحفظ بها مستقبل الصغيرات فالمجتمع لا يرحم.

وحكى لي مرة كيف أُحرج وقد جاءوه برجل عجوز متهم باغتصاب صبي صغير، وكان أهل الصبي يريدون قتل الطرفين؛ العجوز؛ ثأراً لشرفهم، والصبي؛ صوناً لعرضهم. يقول: سألتهم؛ من شاهدكم على المتهم؟ قالوا: جارته شاهَدَتْهُ يُدخل الصبي داره، فقلت لهم: شهادة الجارة مجروحة لأنها لا تُثبت الاغتصاب، وهي لا تكفي مع إنكار الصبي وعدم اعتراف العجوز، إذ قد يكون بينها وبين المتهم ضغينة مُبيتة. وبالتالي ليس لكم على غريمكم سوى أن يقسم لكم على براءته في أحد مراقد الأئمة. ثم أكمل لي قائلاً: لم أكن متأكداً من براءة المتهم، لكنني استثمرت ضعف الأدلة ضده لحفظ حياة صبي قاصر، ودرء فتنة كانت ستنشب بين ثلاث عشائر، بضمنها عشيرة المرأة التي لن تخرج من هذا المأزق بلا خسائر.

النكتة؛ أنه كان يأخذ بنظر الاعتبار كامل أبعاد المأزق الذي يريد معالجته، الشدة واللين بالنسبة له ورقتان ليس إلاً، يستخدمهما بعيداً عن العاطفة، علَّم الزوج كيف أن عنتريات الغيرة سَتُهْلك صغيراته قبل زوجته. وعلم أهل الصبي، أن السكين التي ستذبحه ستذبح معه سمعتهم وكرامتهم فضلاً عن شكهم ببراءة ابنهم التي ستعذبهم طويلاً.

لمثل هذه الحكمة يفتقر سياسيونا اليوم، ممن لا يعرفون سوى منطق العنتريات، وهو المنطق الذي يضحك منه السيد الجنوبي العجوز، الذي لم يتعلم كما تعلموا ولا خاض حروباً كالتي خاضوا ولا تشرد في منافي الغربة كما فعلوا. لكنه أوتي حكمة لن يعرفوها عمرهم كله. قبل أيام ضربت قوات البيشمركة طائرة وصفوها بأنها طائرة استطلاع حكومية، وقد كسر هذا الفعل جداراً بيننا وبين الفتنة لن يستطيع أحد بناءه بعد الآن. وأحدث صدعاً في هويتنا الوطنية لن يلتحم بسهولة. وما كان لهذا الفعل أن يحدث لو كان منطق الحكماء هو المهيمن. كان على الحكومة أن لا تتعامل مع الإقليم باعتباره غريمها، فتفقد بذلك امتيازات الأصل بالنسبة لفرعه، أقصد حقوق الأب على ابنه. وما كان على الإقليم أن يتعامل مع المركز باعتباره غريمه، فيفقد بذلك امتيازات الفرع بالنسبة لأصله، أقصد حقوق الابن على أبيه. الآن وقد ضرب الابن أباه صفعة على خده، فلن يعود لحقوق الأبوة ولا لحقوق البنوة من معنى، فقد دخلت العلاقة طوراً جديداً، وصار الابن وأبوه غريمين لبعضهما.

عندما يسمح الأب للأزمة بأن تتطور بينه وبين ابنه لدرجة تجعله عرضة لصفعته، فهذا يعني أنه بلا حكمة. وعندما يتجرأ الابن لدرجة تدفعه إلى صفع أبيه، فهذا يعني بأنه متهور لدرجة كبيرة. وسيندم الطرفان على زمان ما قبل الصفعة لشدة ما سيخسران في زمان ما بعدها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. حسين

    مقال جميل وفيه حكمة ولكن لا يعقل ان يقال للحكومة في مثل هذا الموضع لم تكن حكيمة، لأننا جميعا نعرف منو هو الذي تعنتر، يعني معقولة فوگ حگه گوم دگه ... خلي نتقي الله في هذا الامر.. تألق كعادتك واترك لغيرك من المأجورين اللهاث وراء الفتات، مقالاتك عنوان وافي و

  2. حسن الدراجي

    الرحمة ؛ وكما يقال عندنا تشمل الاحياء والاموات ؛ رحم الله والدك اخي سعدون فلقد كان حكيما بالتأكيد ، وهو (( فريضة )) على ما اضن ... استنتاجك الاخير اصاب كبد الحقيقة ، السياسيون الذين يتصرفون مع شعبهم بهذه العنجهية ، ولا يحسبون نتائج تصرفاتهم ،هم كالآباء

  3. حسن الدراجي

    الرحمة ؛ وكما يقال عندنا تشمل الاحياء والاموات ؛ رحم الله والدك اخي سعدون فلقد كان حكيما بالتأكيد ، وهو (( فريضة )) على ما اضن ... استنتاجك الاخير اصاب كبد الحقيقة ، السياسيون الذين يتصرفون مع شعبهم بهذه العنجهية ، ولا يحسبون نتائج تصرفاتهم ،هم كالآباء

  4. الشيخ رياض الشاهين

    مقال رائع كما عودتنا استاذ سعدون فأنت جميل في كل ما تكتب (رحم الله اصحاب الحظ والبخت )لم يبقى منهم الا القليل الذين يراعون ضمائرهم في ما يقولون وفيما يحكموا ومن يحكم الان هم مجموعة حفاة لاذمة ولا ضمير لديهم تسلطوا على رقاب المساكين الذين ركنوا عقولهم على

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

عندما يجفُّ دجلة!

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

 علي حسين منذ أن إطلقها الراحل سلطان بن علي العويس في نهاية عام 1987 ، حافظت "جائزة العويس" على التقدير والاحترام الذي كان يحظى به اسم مؤسسها الراحل ، والأثر الكبير الذي تركه...
علي حسين

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

 علاء المفرجي – 2 – المكان في الافلام العربية كان له حضورا مكانيا ورمزيا واضحا، لكنه ايضا لم يكن هذا الحضور يتعلق بالمكان كجغرافية، أو ثقافة، او تأثير. فالقاهرة في أفلام يوسف شاهين...
علاء المفرجي

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

سعد سلّوم تُظهر القراءة في التحوّلات الأخيرة التي شهدها النظام الانتخابي بعد تعديل قانون الانتخابات عام 2023 أنّ العملية السياسية عادت إلى بنيتها التقليدية القائمة على ترسيخ القواعد الطائفية والمناطقية. وقد تكرّس هذا الاتجاه...
سعد سلّوم

عندما يجفُّ دجلة!

رشيد الخيون لو قُيِّضَ للأنهار كتابة يومياتها، لكان دجلة أكثرها أحداثاً، فكم حضارة، سادت ثم بادت، نشأت على شاطئيه، وغمرها ماؤه، مِن أول جريانه وحتَّى جفافه، هكذا تناقلت الأخبار، أنَّ المنبع حُجب بالسُّدود العملاقة...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram