علي حسن الفوازالبعض يضع رهاناً على الثورات التي بانت ملامحها اليومية وليست الايديولوجية، والبعض الآخر لا يراهن البتة على شيء، لقناعته بان مايحوطه هم محض لعبة كونية تصنعها القوى المهينة، والقوى الاقليمية التي تريد إعادة إنتاج خارطة المصالح والقوة عبر مسارات جديدة، عبرالعودة الى أشكال أكثر مقبولية من توصيفات ممالك الطوائف وعلائقية الملوك والعبيد.. هذا الرهان والرهان المضاد هو الذي يضعنا امام تعدد القراءات السياسية والسسيولوجية لـ(مفهوم الثورة)
ولما يحدث فيها ولكل مايحوطها من تعقيدات الحراك الصاخب الذي تحول الى حراك رسمي وإعلامي وتمويلي منذ يافطة الوعي الاحتجاجي التي رفعها محمد بوعزيزي في تونس، والتي تحولت الى مايشبه العدوى الثورية ذات العمق الحقوقي، وربما العدوى النفسية التي بدت امام هيجانها رافضة لكل اشكال الهيمنة بدءا من هيمنة الشرطي الى هيمنة السياسي ورجل الامن والايديولوجيا والخطاب الاعلامي والفقيه البليد الذي يحاصرنا بالتاريخ الضيق وفتوى الموت دائما، وكذلك هيمنة النوع الانثربولوجي الذي صنعته(تاريخات)من الصراعات والحروب والمصالح التي لعبت فيها الدول الغربية ذاتها الدور السلبي في صناعة هذه الملامح الشائهة للدولة والحكم والثروة والجغرافيا.ثمة من يقول في هذا السياق ان هذا المعطى قد تحول الى مايشبه الربيع العربي بتوصيفاته الانفعالية، والذي كان مضادا لطبائع العقل العربي التقليدي الميّال للمساكنة والمسالمة دائما، والخوف من ولي الامر وعدم الخروج عن طاعته. وهناك من يقول ايضا ان هذا الربيع الافتراضي يحمل في تفاصيله الكثير من الالتباس، ليس بالضرورة ماهو ضد الثوري، لكنه الاقرب الى الواقعي، والذي يضع مفهوم الثورة او الانتفاضة امام الكثير من الاسئلة. فإذا كان صاحبو هذا الحراك هم من الشباب، فإنه يضع هؤلاء الشباب امام العديد من المقاربات التي يمكن ان تعطي للثورة توصيفها الحقيقي، خاصة الشباب الذين لم يؤدلجوا بعد، بالمعنى المدرسي والحزبي للايديولوجيا، ولم يعيشوا وصايا الآباء العرابين الذين ظلوا طوال زمن سياسي عربي مأزوم(يزقّون) بالاولاد الثوار حبّهم وماءهم ودفئهم واوهامهم..هذا الجيل العابر لجغرافيا الايديولوجيا المدرسية!! وضعنا امام فضاء عار تماما من المراثي القديمة، وانفتح على شعارات سهلة وغير مستهلكة ويمكن تداولها واستعمالها دون عقد او حساسيات، او حتى اعراض جانبية، اذ باتت الحرية والديموقراطية والتنمية وفرص العمل والحق في سلم اهلي كامل الامتيازات نوعا من الشعارات الاكثر تعبيرا عن هموم الزمن الجديد، ورغم ان الجوع لم يزل هو الجوع، والفقر والجهل والاستبداد مازالت تحمل ذات القوة السرية، مثلما ظلت(الامبريالية)و(البرجوازية) مفاهيم سياسية وطبقية، الاّ ان(الانسان)هو الذي تغيّر، هذا الانسان الذي ظل مطرودا ومقصياً، والذي أصيب بيأس تاريخي من الايديولوجيات المدرسية والاحزاب المدرسية والآباء المدرسين والشعارات المدرسية، وأعلن في لحظة تاريخية مفارقة عن احتجاجه وغضبه ورفضه، وان يقف ولاول مرة قريبا من سورها العتيد، ليكتشف ان هذه(المدرسيات)المضخمة في مخياله السردي ما هي إلاّ خواء و(خيالات مآته) وان صناعة ابطال هذه الخيالات كان جزءا من ازمة خوفه القديم، وانها جزء من حكايات صناديق الجدات التي تتحدث عن خرافات السعالي والعماليق.هذه الكشوفات اعادت الدولة القديمة الى الواقع، وان حكاية السلطان والملك وولي الامر الذي يحكم فيها باسم الله تحولت الى حكاية عابرة، وان مخيالها المرعب ماعاد ينطلي على احد، وماعادت اوهامه وفروضه صالحة لزمن اضحى الانسان فيه هو محور البطولة والتخيّل. وحتى جماعات التشدد في بعض تيارات الإسلام السياسي ذات النكهة الراديكالية ادركوا خطورة هذا التحول، وباتوا امام شرط المراجعة والاجتهاد في النظر والحكم، اذ ان اية فتوى مضادة لهذا الاتجاه ستجعلهم خارج اللعبة تماما، وستضعهم بمواجهة هؤلاء الشباب الزاحفين بدون عقد او حساسيات او ولاءات او حتى مقدس شرطي على طريقة التكفير والهجرة!! اذ شرط الانحياز للحداثة بكل ماتحمله من معان هو المعيار الاخلاقي والاجرائي الذي يمنح شفرة المرور، والاندماج في مسارات مانفترضه من مسمى الثورة لهذه التحولات التي رهنت الشارع والمؤسسة والخطاب والعقل الى معطياتها.. وحتى فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا بالانتخابات الجديدة، والذي يحمل ارهاصا بمعى معين للعلاقة مابين التيارات الدينية الدولتية والحداثة، لايعني فرض شكل مضاد للحراك السريع والصاخب الذي يحتشد في الشارع، لان الاتراك يتصرفون كسياسيين وليسوا كرجال دين، اذ لاتوجد وصايا او فتاوى تحرك وتضبط الحكم العلماني جدا في تركيا، والذي يخضع لمراقبة العسكر من بعيد، ومراقبة القوى الغربية الامريكية من زوايا متعددة، لذا يكون هذا الفوز في خانة بعيدة عن معطيات الشارع العربي الذي مازال مصرا على خبط التدين بالسياسة بطريقة مثيرة وباعثة على الغرابة، ولعل مايحدث في مصر وتونس وحتى في سوريا والسعودية والبحرين هو مثال على هذا المركب الذي يحتاج فعلا الى جرعات عالية من الثورة التي تموه عليها الخطابات الاعلامية الهشة التي تقدمها الجزيرة والعربية وغيرها من قنوات الدرجة الثانية.. اغلب المتابعين يعرفون ان النزعات التي كانت تحكم الدولة باسم الدين، قدمت لنا نموذجا اكثر استبدادا وتشوها للحكم، بدءا من الحكم الس
الثورات العربية.. أزمة الدولة والعقل والانثربولوجيا
نشر في: 18 يونيو, 2011: 05:30 م