هاشم العقابيكانت لندن قبل عشر سنوات أو أقل بقليل، محطة للقاء الادباء والشعراء الذين فارقوا العراق. كان الفضل بذلك يعود الى ديوان، أو جاليري الكوفة الذي اسسه المعماري الشهير البروفيسور محمد مكية. كنت لا احضر تلك اللقاءات من أجل الاستمتاع والفائدة، حسب، انما كنت ايضا أجدها فرصة للقاء باصدقاء عذبني الحنين لرؤياهم بعدما شتتهم المنافي فصار كل واحد منهم تحت نجمة كما نقول. أذكر ذات مرة ان الديوان دعى شاعرا عراقيا منفيا في احدى الدول الاوربية. كان هذا الشاعر واحدا من اصدقائي المقربين جدا أيام كنا في العراق.
كنت اشعر بلهفة شديدة للقائه. وهل من لهفة اشد من تلك التي تدفعك للقاء صديق كنت تلتقيه بشكل شبه يومي بالعراق في أيام شبابك؟ وصلت مبكرا للمكان طامعا في ان انفرد به لا حدثه عن أخيه وما جرى له. وعن أخته التي كانت اجهزة الامن تلاحقها وتستدعيها باستمرار الى ان اضطرت للهروب الى حيث لا يعلم الا الله. وعن أمه التي أرغمتها الظروف فاضطرت الى أن تفتح "چمبرا" بسوق الحي بمدينتنا لتدبر لقمة عيش ابيه واخوته. وكنت اقول لنفسي: هل ساقول له بان وجهها قد غيرت لونه الشمس وفقدت وجناتها ذلك التورد الذي كنا حين نراها نقول عنها "چنها مرة اشخوخ"؟ أم اترك هذا الامر حتى لا أزيده هما فوق هم غربته. ثم وانا في طريقي الى لقائه بذلت جهدا مضنيا لا نشط ذاكرتي حول آخر ما اتذكره عن حبيبته الرائعة التي تركها هناك وكانت معنا في لحظة وداعه يوم غادر العراق. ثم بدأت مخيلتي "الغشيمة" ترسمه أمامي وهو يصرخ اول ما يراني: "يا خوية". لا بل راحت مخيلتي أبعد من ذلك لتحضره امامي وهو يجهش ببكاء حنظلي مر. أي مفاجأة ستكون له حين أقترب منه؟ وهل سيظل جالسا أو "يبيد حيله" حين يراني؟ أسئلة وأسئلة تكاد لا تعد ولا تحصى. ما كان شيء يتعبني اكثر من نبضات قلبي التي صارت تتسارع من شدة اللهفة وانا اقترب من جاليري الكوفة.ووصلت المكان. واذا بصديقي واقفا عند الباب. جاءت عيناه بعيني. تاملني اقل من ثانيتين ثم ادار رأسه ليكمل حديثه مع اثنين كانا يتحاوران معه. سلمت على الجمع فرحب بي الاثنان بحرارة رغم اني كنت قد التقيتهما قبل اسبوعين في المكان ذاته. مددت يدي لاصافحه فاجابني: أهلا وسهلا. قلت لنفسي لعله نساني بسبب تغير ملامحي، فبادرته: أنا فلان. أجاب بهدوء وبرودة شديدين: "اعرفك طبعا .. اي شلونك؟". زين، الحمد لله، أجبته.فكرت ان اغادر المكان لاعنا بساطتي ولأوبخ نفسي التي دائما تورطني بظنها ان الاصدقاء خاصة "المثقفين" منهم لا تتبدل قلوبهم. بالمناسبة لم يكن قلب صاحبي من تبدل، فقط، بل وتبدلت طريقة لبسه وكلامه و "حركاته" أيضا. أخيرا قررت البقاء. اعتلى صديقي المنصة وقرأ قصائد "ايروتيكية" وأخرى تتحدث عن "الضباب الدبق" و "الابر الصينية" و "الاغاني الرملية". بصراحة لم افهم شيئا ذا معنى أو صورة من قصائده. لكني لا أدري سبب عدم فهمي لها بالضبط. فهل هي الصدمة ام تحاملي عليه، لانه تنكر لي، أم لانها هي حقا لا تفهم؟انتهت الامسية، فتسللنا الى البار القريب من جاليري الكوفة، كما جرت عليه العادة بعد انتهاء كل امسية هناك. وفجأة دنا مني ذلك الصديق المتنكر مبتسما، فنسيت كل ما قابلني به من نكران. نهضت فرحا ظنا مني انه أتاني ليعتذر أو ليقول لي انه مجرد "مقلب".ولم يكن توقعي صحيحا. فكل ما فعله الرجل هو انه اقترب مني ليهمس باذني حذرا من أن يسمعه احد ليقول: "أرجوك لا تخبر باني من مدينة الثورة".لم اجبه بوجهه. بل كبت اجابتي بصدري مرددا قول مظفر النواب: "شكلك وانت هل مايع .. وانا من الحركة زهدية؟".
سلاماً يا عراق: شكلك وانت هل مايع؟
نشر في: 24 يونيو, 2011: 07:26 م