ما كانت مؤسسة غالوب العالمية في حاجة الى أن تهدر بعض أموالها لاستطلاع آراء مجموعة من العراقيين من مناطق مختلفة وأعمار مختلفة وفئات اجتماعية مختلفة لكي تدرك أن العراقيين بين أكثر شعوب العالم شعوراً بالتعاسة، بل يتصدرون قائمة التعساء على مستوى الكون.
هذه المؤسسة ذات المصداقية العالية المشهورة باستطلاعات الرأي التي تنظمها لصالح مؤسسات اعلامية وغير اعلامية دولية، كان يكفيها أن تُرسل مندوباً عنها لكي يتمشى في بعض مدننا وقرانا ليكتشف ان التعاسة تمشي بينناعلى قدمين أو تطير بجناحين في كل شارع ودربونة وساحة وحي سكني ومصنع ومزرعة في بلاد النفط والماء والنخيل.. بل كان يمكنها أن ترسل مندوباً أخرسً أو أطرشً، لا يقرأ ولا يكتب ولا يستخدم استمارات الاستبيان لكي يسأل وينتظر الجواب، فبعينيه كان سيرى ان التعاسة محفورة حفراً في وجوهنا ومطبوعة بوضوح في عيوننا.
مؤسسة غالوب أجرت استطلاعاً لقياس معدل المشاعر الإيجابية في العالم نشرت نتائجه أول من أمس، جاء فيه ان العراقيين في طليعة "الأكثر تعاسة" في العالم، وتضمن الاستطلاع خمسة أسئلة كان على المستطلعة آراؤهم الإجابة عنها بنعم أو لا. من هذه الأسئلة:"هل ابتسمت أو ضحكت كثيراً يوم أمس؟" و " هل عوملت بشكل جيد واحترام طوال يوم أمس؟"، وجاء ترتيب العراق الثالث قبل الأخير (من 148 بلداً أجري فيه الاستطلاع) في قائمة السعادة، أو بين الأوائل في سلم التعاسة.(لمن يهمه الأمر فان الأكثر سعادة بين شعوب العالم بحسب الاستطلاع هم سكان أميركا اللاتينية).
ما الذي لا يُنكّد على العراقيين حياتهم ولا يجعلهم تعساء، بل في ذروة التعاسة؟.. الكهرباء التي يتلف انقطاعها الأعصاب عشر مرات في اليوم؟.. أم الأمن المُفتقد؟..أم التعدي الحكومي السافر المتواصل على حرياتهم الشخصية وحقوقهم المدنية؟.. أم القضاء المنتهكة حرمته واستقلاليته؟.. أم الأزبال التي تملأ الأرصفة والشوارع والأزقة ومباني دوائر الدولة؟.. أم المياه الآسنة التي تغرق فيها أحياء كاملة؟.. أم المعاملة المتعسفة والمهينة للكرامة من عناصر الأمن ومواكب المسؤولين المسلحة للمواطنين المارين بسياراتهم في الشوارع وعبر السيطرات؟.. أم الرشى التي يطلبها مسؤولو الدولة الكبار من المقاولين والتجار والشركات لإجازة الصفقات، والموظفون الصغار من عامة الناس لتمشية المعاملات؟.. أم مفردات الحصة التموينة غير الصالحة للاستهاك البشري؟.. أم الحال التعيسة للمستشفيات والمدارس؟ أم المستوى المتدني للتعليم والتعليم العالي؟ .. أم البطالة المتفشية بين ثلث الشباب؟ .. أم توزيع الوظائف على الأقارب والمحاسيب والأزلام والمحازبين غير الأكفاء؟ أم الفقر المكتسح ربع السكان؟.. أم السكن اللائق بالبشر المستعصي على نصف العراقيين؟.. أم هذه الأزمات السياسية المتناسلة الواحدة عن الأخرى؟ أم هذا النمط من السياسيين المستحوذين على أهم المواقع في الحكومة والبرلمان والذين لا ترف لهم عيون عن كل ما يحدث للبلاد.. بسببهم بالتأكيد؟
كيف لا يشعر العراقيون بالتعاسة والحنق والغيظ والمنظمات الدولية المعتبرة تصنّف في تقاريرها دولتهم بين الأكثر فشلاً والأكثر فساداً والأقل شفافية، ومستوى حياتهم بين الأدنى ومدنهم بين الأوسخ؟