فخري كريم
تجنّبت في أحلك الظروف التي مرت بنا بعد سقوط النظام البائد، توجيه الاتهام إلى القضاء في بلادنا والتعريض برجالاته، مع أنني أعرف أن فيه ما في الدولة بكل مفاصلها من ثغرات وعيوب ومثالب.
وكلما ساورني الشك في وقائع دامغة تُعرَض حول خللٍ قضائي يأخذ بريئاً بجريرة مدّعٍ فاسدٍ مأجور، حاولت جاهداً إبعاد الخلل عن القضاء كجهاز أو منظومة، وأرحل فعلته الى فساد ذمة شخصية لقاضٍ فرد أو لجهة متنفذة تمارس سلطتها بالرشى أو بالتهديد أو بغيرهما لتجريد القضاء من رسالته النبيلة في اشاعة العدالة في المجتمع وحماية الدولة من التآكل والتفسخ جرّاء تجريد السلطة القضائية من استقلاليتها، وتغوّل السلطة التنفيذية عليها والتدخل في شؤونها.
لكن علينا أن نأخذ في الاعتبار ما هي عليه الدولة بتركيبتها التي آلت بعد سقوط الدكتاتورية، والتداخل بين سلطاتها الثلاث ومدى استقلالية كلٍ منها عن الأخرى، ونحن نتناول تقييم وضع القضاء وأداء مهامه والتصدي لدوره في حماية الدستور، قبل كل شيء باعتباره الأساس في السهر على حقوق المواطنين وحرياتهم وحرماتهم ومصالحهم.
نعرف الآن أن دولتنا أمست، بفعل فاعل، "لا دولة"، وكل ما فيها خارج عن سياقاته المنصوص عليها في الدستور، بل وما لم يجر النص عليه في الدستور تجده حكومتنا الرشيدة في قرارات وقوانين "مجلس قيادة الثورة" التي لم يبادر البرلمان العتيد الى إلغائها، وبعض هذه القوانين والقرارات تتعلق بأخطر مرافق الدولة ومؤسساتها وقواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية التي يُفعّلها رئيس الحكومة ويستند اليها في ادارة البلاد في غفلة من السلطة التشريعية وكتلها المتقارعة وتجاهل تام لها..!
ومن المعروف في حياة الامم والشعوب ان الفساد اذا ما استشرى في اي "عضوٍ" في جسد الدولة، خصوصاً سلطتها التنفيذية، انتشر في بقية أجزائها، مثل وباء الطاعون او "نقص المناعة" في تشبيهات عصرنا المُنحل. ولا حاجة لنا للبحث عن الادلة والقرائن على تداخل الفساد في نسيج "دولتنا اللا دولة"، فكل قادة هذه الدولة المتشظية، يقولون بذلك ويتبادلون الاتهام فيما بينهم حول الأكثر فساداً، ويتباهى رئيس مجلس الوزراء باحتفاظه بأكبر ملفات فساد شركائه، المعارضين منهم والذين في سبيلهم لمعارضته.
ولهذا يصعب تحييد سلطة القضاء وتجنيبه شرور هذا الوباء الذي يبدد ثروات البلاد، كما لم يحصل من قبل. وكيف للقضاء أن يقاوم أو أن يتحصن في مواجهة حشودٍ من أعتى الفاسدين الذين شهدهم العراق، المدججين بكل أسلحة القهر والتهديد والتصفية والإقصاء على الهوية أو "الملف"، إن تجاوزنا الإغراءات الأخرى المباشرة التي يأباها ضمير القاضي والحاكم.
لقد تبين لي خلال موجة الاحتجاجات والمظاهرات المطالبة بالحرية والخدمات التي عمّت سائر المحافظات في العام الماضي، وشهدت العاصمة بغداد "عاصفة شبابية" منها تحت جدارية الحرية، ان غياب الرقابة القضائية غير " الأمنية " أو ما تعارفنا عليه في الحياة النضالية بـ"التحقيقات القضائية الأمنية "، وهي معروفة بممارساتها المخالفة لكل حقوق الانسان وقواعد التعامل مع المعتقل والسجين، اظهر مدى الانتهاكات التي مورست والتي كشفت الاعتقالات والتحقيقات التي طالت العشرات من الشابات والشباب المتظاهرين سلمياً، والأساليب التي مورست معهم منذ لحظة اعتقالهم وخلال استجوابهم، إن "عراقنا الديمقراطي الجديد" اعتمد في جهازه الأمني والمخابراتي على ذلك الصنف الملوث بجرائم النظام السابق ضد المناضلين وبذات الأساليب التي يعافها العرف الإنساني النبيل.
وخرج المعتقلون الشباب بعد ايام من الحجر التعذيبي وقد فقدوا إيمانهم بعدالة نظامهم الجديد وتفاؤلهم بالمستقبل الذي ينتظرهم، بعد أن واجهوا ما كان بعضهم قد واجهه في ظل نظام صدام حسين من تعذيب وحشي وسباب مقذع طاول الأعراض وتلفيق تهم بالتزوير والتآمر وسواهما مما كانت تختزنه جعب الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة. ومن الحالات الفاضحة التي فاحت رائحتها المستورثة من جعبة الأمن الصدامي، حالة الشباب والصحفيين الذين واجههم المحققون بـ"هويات مزورة" ملفقة على عجل ووقاحة.
فبأي معيارٍ للثقة أو الإيمان، الشك واليقين، نتعامل مع ما نواجهه اليوم أو في قابل الأيام من قضايا أو اتهامات تطاول شخصيات قيادية من خلفيات سياسية ومذهبية بعينها، واستهدافاتٍ لمناطق مشكوكٍ بولائها السياسي وفقاً لتصنيفات الحاكم بأمره..؟
إن حملة الاعتقالات الجديدة التي طالت مرافقي وزير المالية رافع العيساوي، بتهمة الإرهاب، وما رافقها من إساءة التصرف معه شخصياً، وهو بموقعه الرسمي السيادي والاعتباري السياسي، تثير تساؤلاً مشروعاً حول الشرعية الأخلاقية التي تبقت لمن يقف وراء كل هذه الممارسات والتسلّكات المنافية للدستور ولقواعد العملية السياسية الديمقراطية وما تفرضها من ضرورة الالتزام بما تمليه من شروط وضوابط؟
وبغض النظر، "افتراضاً"، عن صحة أو عدم صحة الاتهامات الموجهة لمن قيل ان اعترافاً من جماعة الهاشمي تناولت سيرته في عمليات مشبوهة، فبأي مسوغ قانوني تم اخفاء الاعترافات المذكورة في ملفات القائد العام الذي أبلغ بها طوال شهور؟
ان كل ذي عقل سليم سيرى في هذا الذي يجري مواصلة لانتاج ازماتٍ سياسية جديدة، وتصفية حسابات لم يكن لها ان تتم لولا احساس المحركين لها بعجزهم عن توظيف ملفاتها في الاتجاه المطلوب، خصوصاً وان الكل يعرف ان عناصر بارزة في الحكومة وحولها، كما جرى التصريح بذلك جهاراً وامام الملأ، مشتبه بذمتها واجهت تلويحات الملفات الفاسدة، وقد ظهر ذلك من سلوكها ومواقفها في الاشهر الاخيرة بوضوح.
لقد كشف المسلسل الجديد عن نوايا مبيتة للإجهاز على اطار العملية السياسية ومقوماتها، وصولاً الى خلق فراغٍ سياسي يتيح إمرارِ مخططٍ مضادٍ للثوابت الوطنية، يكرس الانفراد ويدفع البلاد إلى منحدر المواجهة والتصفيات السياسية.
كيف لنا أن لا نتابع بقلق ما نتعرض له من مظاهر الأزمات التي لم تخرج البلاد بعد من تبعاتها والنتائج التي ترتبت عليها، حتى نواجه اشد منها إثارة للقلق والتوجس؟ كيف نحسب بمعايير السياسة بعضاً من هذه المظاهر الفالتة:
- اسقاط صدقية البنك المركزي، بازاحة سنان الشبيبي واتهامه ووضع البنك والاقتصاد العراقي في مواجهة شكوك دولية واعادة تقييم.
- صفقة السلاح الفاسدة وشبهة الرشى المحيطة بها واصرار رئيس مجلس الوزراء على اخفاء حقائقها .
- صفقة طائرات الاسطول المدني وما يرافقها من شبهة الفساد.
- تحريك " قوات دجلة " غير الدستورية ووضعها في مواجهة قوات الإقليم.
- الازمة المتفاقمة مع اقليم كردستان والتنصل من الالتزامات المقطوعة للحوار بشأنها وإيجاد الحلول المناسبة لها.
- التلويح بحرب عربية - كردية " قومية " وكيل الاتهامات للاخر، وخرق فاضح للدستور بتغيير " ألفاظ " وما تعنيه من معنى ورد فيها فيما يتعلق بما عالجته المادة ١٤٠ من الدستور.
- اثارة جدلٍ متخاذل حول اصطفاف عربي شيعيٍ سنيٍ - كردي ، في اطار الحرب " القومية " وصولتها غير المباركة .
- اخيراً .. العودة الى الاصول المخفية بصولة جديدة تمثلت بحملة اعتقال حماية وزير المالية العيساوي، وما حركته من مشاعر وضغائن طائفية كامنة، وما يمكن ان تسببه من انفلات امني وخياراتٍ لا تحمد عقباها.
وإذا لم يكن وراء اثارة كل هذه الازمات المتتالية، هوسٌ سلطويٌ مخالف للدستور وضوابطه، وافتراض انها مجرد حماقات سياسية مغامرة، او عبث مترهلٍ بضيق الافق، اوخللٍ حسابي... فهل من الحكمة ان تظل قيامة هذه الدولة "اللا دولة" ومصائر العراقيين ومستقبل العملية الديمقراطية، تحت رحمة ادارة مسكونة بالرهاب واشباح الفوضى والانفلات..؟
جميع التعليقات 4
يوسف
ماهو الحل كيف نخرج من هذا النفق ارجو منكم طرح حلول العراق بلدنا جميعا وكلنا مسؤل الشخص الواحد الذي يحكمنا باسم الاسلام السياسي او غيروا التسميه الى الاسلام العلماني هذا اذا كانوا يفقهوا معنى التعبيرين يجرنا الى الهاويه القائد الفلته عندما اختلف مع الجعفري
saad
الاستاذ فخري المحترم ان تعلم اكثر من غيرك ان مايجري لي حماقات وانما هو مخطط وهناك غرفة عمليات لدولة اقليمية تصدر اوامرها للقائد العام بفتح الملفات وانها سلسة مترابطة ستتوج بكارثة على العراق تحياتي
saad
الاستاذ فخري المحترم ان تعلم اكثر من غيرك ان مايجري ليس حماقات وانما هو مخطط وهناك غرفة عمليات لدولة اقليمية تصدر اوامرها للقائد العام بفتح الملفات وانها سلسة مترابطة ستتوج بكارثة على العراق تحياتي
Dr.Mahmoud
كلام رائع وكنت اتمنى التركيز اكثر على اسباب عدم الحراك او المتابعه والتصرف بشان السكوت على الجرائم التي ترتكب او التجاوزات والاعمال المهينه التي تحدث ذلك السكوت سواء من العراقيه او غيرها ممن يدعون الوطنيه ؟؟؟؟؟ حتى الزائفه منها والذين ينضوون تحت رايه السل