لست من المثاليين الذين ينكرون الانقسامات الدينية عبر التاريخ. الانقسام بدأ حين تحول الانسان من فرد وحيد الى كائن ضمن جماعة. الجماعات العاقلة ادارت انقساماتها بشكل صحيح فأنتجت هجنة ثقافية ثرية. وبعض الجماعات دخلت في "حروب مقدسة" ثم تعلمت من دروس الموت والدم و"طابت" من المرض. اما اسوأ الجماعات فهي التي ستظل تحترب فيما بينها حتى الانقراض. سؤال الحضارة الجديد هو: كيف ينبغي ان تدار الخلافات؟ وهو ضد سؤال الحضارة القديم: كيف ينبغي ان نقضي على الخلافات ونتخلص منها؟ انسان القرن الحادي والعشرين يبتكر صيغا مثيرة لادارة خلافاته بطريقة منتجة وبالحد الادنى من الكلف. ونحن ندير ملف السيد نوري المالكي بطريقة سيئة كثيرا، وعلينا ان نلتقط انفاسنا لنتدبر بهدوء ونحدد فهما معمقا للمشكلة، قبل ان تتقاطع رايات القبائل ويختلط الحابل بالنابل.
سأقوم بمرور سريع على قضيتين، الاولى هي درس عام 2012 الذي قال لنا بصوت مسموع، ان المالكي في هذه السنة لم يكن شيعيا. والقضية الاخرى، هي ان الهستيريا تتملك الرجل وإذا لم يقم فريقه بتهدئته فإننا سندفع ثمن كمية كبيرة من غياب حكمة السلاطين التي قد تنتهي بما هو ابعد من "احراق الرايخ".
مناسبة هذا الحديث المظاهرات التي تابعناها باهتمام وتحمسنا لها في غرب البلاد، ضد الازمة الجديدة مع وزير المالية. ان جزءا كبيرا من شعاراتها كانت تتحدث عن "مؤامرة شيعية ضد سنة العراق". لكن هذا يحتاج الى تذكير بمجموعة حقائق.
ان رغبة المالكي بالظهور كحاكم مطلق، ليست شيعية، بالضبط كما ان رغبة صدام حسين في التحول الى بطل بأي ثمن، لم تكن رغبة سنية. وكلاهما لم يكونا رغبة عراقية. المالكي لا ينصت لحكماء الشيعة، كما كان صدام يسد اذنيه عن سماع حكماء السنة. المالكي اضر الشيعة ومارس تسلطه على خبير فخم مثل سنان الشبيبي وهو سليل اسرة كريمة شيعية، قبل ان يفعل ذلك برافع العيساوي ابن الاسرة الكريمة من الرمادي. والشبيبي والعيساوي جزء من التعددية السياسية داخل سلطة المال، والمالكي يتحرك برغبة التسلط على مؤسسة المال من مصرف التجارة الذي كان قريبا من احمد الجلبي (الشيعي) الى البنك المركزي (وسنان شيعي) وقبلها ملفات هيئة النزاهة (ورحيم العكيلي المقال شيعي) ثم العيساوي في وزارة المالية. الرغبة بالتسلط على ملف المال ليست رغبة سنية ولا شيعية.
ان استخدام تعبيرات طائفية في وصف شهوة المالكي للسلطة تخريب لفهم الموضوع يهدد انقسام الجبهة الوطنية التي تعارض المالكي. اجتماع اربيل صيف هذه السنة لم يكن كرديا. اجتماع النجف الذي تلاه لم يكن شيعيا. كان الاجتماعان اول لقاء من نوعه يمثل احتجاج مراكز القوى في كل الطوائف، على حاكم بقي في منصبه 7 اعوام ولم ينجح الا في ركوب الدبابات ضد زعماء كتل البرلمان من كل الطوائف. وكما وعاها عبد المهدي والجلبي واجواء الحوزة في النجف، فإن الصدر فهمها في ملف طوزخورماتو وقال ان المالكي لم يحرك دباباته غيرة على العرب ضد الكرد. وعلى اهل الرمادي الكرام ان يفهموها في ملف العيساوي، فما حصل لم يكن مع قيادي سني، بل كان مع احد رؤوس الشرعية في الملف المالي. الحركة ضد العيساوي استكمال للحركة ضد الشبيبي والعكيلي والجلبي.
لا تجعلوا الشيعة يصدقون ان المالكي دكتاتورهم. اهلنا الشيعة اكثر طرف ينتقد ويحتج على حاكم يشتهي الاستبداد. وأشعر بقلق حين يبدو لي ان بعض مظاهرات غرب العراق لم ترد ان تدرك ان الشيعة مثل السنة، تظاهروا ضد سياسات السلطان بشجاعة. السلطان سياسي عراقي شيعي، وربما كان جده سنيا قبل مائة وخمسين سنة، وتركبه ارادة غير حكيمة اليوم. ابلغ تعليق نشرته المدى السبت كان لقيادي كبير في التيار الصدري قال بوضوح: ان اجراءات المالكي افقدتنا الثقة بنتائج اي تحقيق، وبموضوعية اي اتهام، وان المالكي يريد اخضاع كل شركائه، سنة وشيعة وكردا. ما افظع ان نعيش في بلد نشك باجراءاته الامنية والقضائية يا إلهي، سواء كنا سنة او صابئة او يهودا؟
اما القضية الاخرى فهي ان المالكي غاضب لان البيشمركة لم يتهوروا ويطلقوا النار رغم كل استفزازاته ولم يفسحوا له الطريق ليصبح بطلا. المالكي غاضب لان العراقيين لم ينزلوا الى الشوارع هاتفين باسمه ومصفقين بعد ان اصدر 5 اعدامات على الهاشمي ووصف تصريحات الصدر بأنها "بلا قيمة". المالكي غاضب لان الطائفة الشيعية الكريمة لم تنخدع بتبشيره بمفهوم "الرجل القوي الذي يريد انقاذ البلاد". المالكي غاضب لانه وجد ان كل الطوائف تضامنت مع طالباني في ازمته. المالكي اليوم يفرغ غضبه في العيساوي، وسيدور على الجميع لافراغ غضب لا ينتهي، على شعب لم يخرج للتصفيق في الشوارع والهتاف باسم السلطان "ومنجزاته العظمى".
اخيرا، قراء كرام سألوني مليون مرة: ولماذا لا تنتقد فلان حزب وعلان كتلة. وأجيب للمرة المليون ايضا: لن انتقد بارزاني ولا النجيفي ولا الصدر. هؤلاء السادة بتوافقهم نصبوا علينا سياسيا تنقص قراراته الحكمة، وعليهم خلع هذا السلطان اولا قبل ان ينجح في "احراق الرايخ". بعدها ستكون لدينا فرصة اوضح لمراجعة كل ثغرة، فالنقد مهمة ابدية ستتواصل، وبدرجة الحماس التي تحبون!
جميع التعليقات 4
الناصر دريد
لايمكن ان يكون سرمد الطائي اكثر صوابا واصدق تشخيصا من هذا ، على السنة ان يعو ويدركوا ان مهاجمة المالكي كشيعي تقويه ولا تضعفه ، والحل الوحيد لا لاسقاط المالكي بل لاصلاح الوضع برمته لايكون الا بالحل الوطني والذي كما يتطلب من الشيعة اراء شجاعة وجريئة مثل رأي
صفاء
مسكين سرمد مصاب بداء المالكي المزمن
صفاء
مسكين سرمد مصاب بداء المالكي المزمن
قيران
سرمد الطائي مخلص وشريف , انسان محترم ويعرف الحقائق وما وراء الكواليس , أتمنى له كل التوفيق والنجاح وهو بطل عيراقي بأمتياز ,