اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > ناس وعدالة > المسلسلات البوليسية والأدلة الجنائية

المسلسلات البوليسية والأدلة الجنائية

نشر في: 23 ديسمبر, 2012: 08:00 م

مع التطور الذي شهدته الأدلة الجنائية: أي استخدام العلوم الجنائية في إقامة الحجة على المتهمين بارتكاب الجرائم المختلفة، ظهرت علينا مسلسلات تلفزيونية عديدة تستغل ذلك التطور وتلك العلوم الجنائية من اجل التشويق الدرامي وإغراء المشاهدين لمتابعتها .

تلك المسلسلات على غرار المسلسل الشهير ( CSI ) و ( Bones ) و (Cold Case) و ( Criminal Minds) وغيرها ، أسهمت في التأثير على افكار الناس وقولبة آرائهم حول ما يستطيع العلم تقديمه من اجل مكافحة الجريمة او التعرف إلى المجرمين في جرائم القتل الغامضة، فارتفع سقف التوقعات من العاملين في مجال الأدلة الجنائية.

وبفضل هذه المسلسلات صار الناس ينظرون بإكبار وإجلال واهتمام إلى العاملين في مؤسسات الطب العدلي والعلوم الجنائية الأخرى، وهذه نقطة ايجابية تصب في مصلحة تلك المؤسسات في مقابل ذلك فان ارتفاع سقف التوقعات والنظرة الخيالية الى الإمكانيات العلمية والفنية للعاملين في مجال العلوم الجنائية تضر بالقيمة الحقيقية لهذا الاختصاص المهم. ما تصوره هذه المسلسلات من دقة في نتائج الفحوص المعملية وسرعة في الحصول عليها لا يمثل الحقيقة، كما ان أعضاء فريق الأدلة الجنائية ومسرح الجريمة لا يطاردون المجرمين ولا يحققون معهم كما تحاول تلك المسلسلات ان تكرسه من خلال أبطالها.

ويعتقد كثيرون بان هذه المسلسلات البوليسية المبنية على الادلة الجنائية ألقت بظلالها على السلوك الإجرامي من حيث زيادة وعي المجرمين بالاحتياطيات المتخذة لتلافي ترك أدلة تدينهم في مسرح الجريمة ، ويذكر على سبيل المثال أن العديد من ضحايا الاعتداءات الجنسية اجبرن على الاستحمام واستعمال مواد مطهرة قبل أن يغادر الجناة المكان . كما صار المجرمون يحرصون على استعمال القفازات والتخلص من ملابسهم بعد ارتكاب جرائمهم عن طريق الحرق والتخلص من سلاح الجريمة بإلقائه في البحر او بحيرة ، وتحاشي ترك لعابهم على طوابع البريد او أغلفة الرسائل المستخدمة في الابتزاز .

ومن التأثيرات غير المستحبة على العاملين بالقانون اعتقادهم بضرورة إجراء التحاليل الكيميائية والبيولوجية في كل القضايا الجنائية ، وعدم تقبلهم لآراء الأطباء العدليين إن لم تتضمن نتائج تحاليل معملية وعبارات ومصطلحات غريبة ومنمقة . كما صار قضاة التحقيق العامة يتطلعون الى إيجاد الأدلة الجنائية وبخاصة البصمة الوراثية حتى إذا توافر شهود عيان تصب شهادتهم في تأكيد إدانة المتهم. بينما الصحيح أن الطبيب العدلي هو الذي يقرر ضرورة إجراء فحص معين من عدمه . او عدم إجراء أي فحوص معملية على الاطلاق في بعض القضايا الواضحة او الوفيات غير الجنائية . وكذلك يكون وضوح الرأي وعدم استخدام المصطلحات المعقدة نقطة ايجابية في التقرير الطبي وليس العكس. وقد اثرت هذه المسلسلات بإخراجها الشائق على العديد من الشباب وجعلتهم يتجهون إلى الدراسة الجامعية في العلوم الجنائية والتخصص فيها، وبهذا لم تعد الندرة هي السمة الطاغية على هذا المجال، بل إن أقسام البيولوجيا الحيوية (DNA) صارت تعاني من الإقبال المتزايد إلى درجة الاكتظاظ في بعض المراكز.

أثناء إلقائي سلسلة من المحاضرات حول (التحقيق الجنائي الفني) سألني طالب في السنة النهائية بإحدى كليات الشرطة عن انطباع صورة الجاني على قاع عين المجني عليه ولماذا لا تظل الصورة واضحة إلا لمدة خمس عشرة دقيقة؟ العجيب في الأمر انه لم يسألني عما إذا كانت تلك المعلومة حقيقية أم لا، فقد كان يبدو انه متيقن من صحتها. ولما سألته عن مصدر هذه المعلومة أجاب بأن طبيبا متخصصا في الطب العدلي اخبره بذلك! حاولت أن اجعله يقتنع بأن ذلك ضرب من الخيال ومحض افتراء ، أيا كان مصدر معلوماته ، ولكنني لا اعتقد أنني نجحت في ذلك ، الراهن أن الناس يصدقون كل ما هو غريب وخيالي وغير متوقع . أما الحقائق العلمية البسيطة فلا يلقون إليها أي بال . معامل التصديق يتناسب عكسيا مع حجم الكذبة حتى إن لم تكن متقنة، فما بالك إذا تناولها مخرج بارع وممثلون مهرة في فيلم أو مسلسل تلفزيوني معد بعناية كبيرة .

اخبرني شخص آخر بان الطبيب العدلي ( فلان) كان يتناول الطعام أثناء قيامه بعمليات التشريح ، سألته هل رأيته ، فأجابني: لا ، ولكن ذلك الطبيب هو الذي اخبرنا . لم يجد ذلك الشخص غضاضة في تصديق هذه المعلومة على الرغم مما تنطوي عليه من شذوذ وغرابة واستحالة . الشذوذ : يتمثل في تصديق مقدرة أي إنسان حتى إن كان طبيبا عدليا ، على التجرد من العواطف الإنسانية المتعلقة بالشعور بالاشمئزاز والغثيان من المناظر المزعجة والروائح الكريهة ، وبخاصة أثناء الأكل ، والغرابة : المتمثلة في تصديق ان ذلك الطبيب لا يجد وقتا للجلوس في مكتبه ليتناول إفطاره، فيأكل على جثامين الموتى . أما الاستحالة: فتتعلق بتصديق مقدرة الطبيب على الإمساك بأدوات التشريح والتعامل معها ، والتعامل مع الطعام وتناوله في آن واحد ، هذا بصرف النظر عن التلوث والسلامة الصحية والموقف الديني ، لقد قلت في نفسي: إن الذين يصدقون مثل هذه القصة من السهل عليهم تصديق كل المبالغات والخيالات التي تعرضها مسلسلات (CSI) وغيرها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

جانٍ .. وضحية: مدفع السحور.. جاء متأخراً !!

جانٍ .. وضحية: مدفع السحور.. جاء متأخراً !!

كانت ليلة من ليالي رمضان، تناول الزوج (س) فطوره على عجل وارتدى ملابسه وودّع زوجته، كان الأمر عادياً، لكن لسبب تجهّله، دمعت عينا الزوجة. ابتسم في وجهها وهَمَّ بالخروج الى عمله بمحطة الوقود الخاصة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram