عبد الزهرة زكي صدر قبل أيام كتاب الزميل توفيق التميمي (شهادات عراقية) وتضمن لقاءات موسعة مع شخصيات شاركت في صنع أحداث مختلفة في القرن العشرين أو عايشت تطوراتها..وقد تصدرت الكتاب المقدمة الآتية التي كتبها الزميل عبد الزهرة زكي. المحرر
هذا كتاب يمتزج فيه فنا المقابلة الصحفية وكتابة الشهادة أو الاعتراف أو السيرة، وهو امتزاج كان مقصودا في أذهان المخططين له والقائمين عليه.فلقد بقي أدب الاعترافات وفن السيرة قيمة ثقافية محدودة الإنتاج أو عديمته في الحياة الثقافية العراقية بشكل خاص، والعربية بشكل عام.لكن الحاجة مهمة لكتابة أو استحصال الشهادات والإفادات والاعترافات..حاجة يتحراها القراء ويتطلبها دارسو وباحثو التاريخ الوطني المعاصر..وبهذا فهي تشكل حاجة ثقافية وتاريخية وأخلاقية سيكون من الصعب إملاؤها بغياب شخصياتها ورجالاتها الأساسيين.ليس من الصعب أن يعزى هذا الغياب إلى هيمنة قيم ثقافية وتربوية وسياسية لا تسمح بالظهور الواسع الذي تمتعت به المذكرات وأدب الاعترافات وكتابة السير الذي عرفت به ثقافات أخرى تتمتع بقيم ثقافية وتربوية وسياسية غير التي تهيمن في حياتنا العراقية والعربية، حتى بات كتاب السيرة والمذكرات هناك يحتل ركنا أساسيا في قائمة الكتب الأكثر رواجا والأكثر تداولا في مجتمعاتها، مما حفز المشاهير وذوو التجارب الخاصة والمؤثرة على الكتابة في هذا المجال لدوافع كثيرة، لكن الدافع التجاري من بين أهمها.ففي حالات كثيرة عرفتها العقود والسنوات الأخيرة لم يعد بإمكان المشاهير وصانعي الأحداث الانتظار إلى آخر العمر لكتابة السيرة..لقد بتنا نطالع ما يمكن تسميته بشهادة الفاعلين في حدث ما حتى قبل أن يطوى ملف الحدث، وبهذا المجال يمكن الاستشهاد مؤخرا بـ (مذكرات) أو شهادة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن الغزو والحرب في العراق، والتي كانت أول مناسبة لظهوره بعد احتجابه السياسي إثر انتهاء ولايته الرئاسية الثانية، وكانت العوائد الأولية لبوش من الكتاب قد قُدِّرت بسبعة ملايين دولار أمريكي..فيما لم تمنع دوافع أخلاقية أو أمنية (أمن الآخرين) الحاكم المدني في العراق بول بريمر من كتابة ونشر (شهادته) أو (إفادته) عن سنة عمله في العراق بعد انتهاء هذه السنة بشكل مباشر، ومن دون أية مراعاة لما قد تسببه هذه الشهادة من إحراج لكثير ممن تعامل معهم بريمر من العراقيين الذين ورد ذكرهم  في مؤلفه الذي ترجم في شهره الأول إلى العربية وجرى تداوله بالاستنساخ في العراق بعدما توقفت صحيفة المدى عن ترجمته ونشر حلقاته التي بدأتها في الأيام العشرة الأولى لظهور الكتاب وذلك لما رأته احتراما منها للحقوق الشخصية لشخصيات جرى المرور عليها، حيث لم يفكر بريمر حتى في استئذان المذكورين في ذلك النشر الذي در عليه ملايين الدولارات.الدافع التجاري ليس وحده ما يتحكم الآن في الولايات المتحدة والغرب في سرعة تأليف ونشر السير والمذكرات والشهادات والإفادات التي تقدمت على كثير من المؤلفات الأخرى في سوق الكتب..لكن تقدم حركة الطباعة والنشر والتوزيع كان دافعا مهما لتسريع الكتابة وعدم انتظار موت قيمة الجذب لمعلومات السيرة أو الشهادة بخصوص حدثٍ ما في عصر بات فيه الحصول على المعلومات وتداولها ليس بالتعقيد الذي كان عليه في عقود وقرون مضت، ويضاف إلى هذا العامل عوامل أخرى لها صلة بسرعة تغير الأحداث وتكاثرها وتطورها، وبما يجعل الأحداث، بكل ضخامتها تفقد بريقها وقوة جذبها في سنوات وربما أشهر محدودة.لقد كان على العالم أن ينتظر كثيرا من السنوات لمعرفة حقائق كثيرة ظلت غائبة ومفقودة عن الحرب العالمية الثانية، مثلا، قبل أن يفكر زعماؤها ورجالها بنشر الأسرار التي كان يجري الاحتفاظ بها لما بعد انتهاء الحياة السياسية لمؤلفيها، تلك النهاية التي كانت تقترن عادة بنهايات العمر وسنواته الأخيرة، وربما بعد رحيل المؤلفين عن هذا العالم.لم يعد العالم ينتظر..إن تطور وسائل الاتصال وتزايد حريات العمل الإعلامي وتراجع قدرات حاجبي المعلومات على إخفاء الحقائق والبيانات عن الجمهور العام جعل من مهمة كاتبي الشهادات والإفادات مهمة تتطلب السرعة في التنفيذ والنشر..ولعل الدخول إلى عالم اليوتيوب والفيسبوك، ومعهما البث الفضائي، وقدرة هذه الوسائط الاتصالية على النقل الفوري للأحداث، بمبادرات من الفاعلين الأساسيين أو الثانويين فيها، هما من التحديات الحقيقية التي تحرض الكتاب على سرعة تدوين إفاداتهم وشهاداتهم في هذا الجو التنافسي المحموم للوصول إلى الجمهور..فيما سيكون ما أقدم عليه سفانج مؤسس موقع ويكيليكس هو التحدي الأخطر، إذا ما تطور، الذي يواجه صانعي الأحداث ومالكي المعلومات وحاجبيها ويضع قابليتهم للإفادة من هذه المشاركة والامتلاك للمعلومات وحجبها (إلى حين) أمام امتحان حقيقي تفقد معه قيمتها التنافسية في سوق المعلومات.لكننا في العراق، وفي ظل حاجتنا، كقراء أو دارسين وباحثين، ما زلنا في حاجة إلى معلومات قرن من الزمن، قرن هو تاريخ الدولة العراقية الحديثة التي بقيت تخفي وتظهر من المعلومات بحسب ما تمليه عوامل السياسة والمجتمع ومتغيراتها الدراماتيكية، بحسب ما تفرضه أو تسمح به تلك العوام