TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية :مجلس القضاء الأعلى أمام منعطف تاريخي..

الافتتاحية :مجلس القضاء الأعلى أمام منعطف تاريخي..

نشر في: 4 يوليو, 2011: 08:57 م

فخري كريم
في عام ١٩٢٦ من القرن الماضي، أي قبل اقل من مئة عام، رفعت قوى ظلامية دعوى  جزائية على طه حسين، احد ابرز قادة التنوير في عالمنا العربي،

 تقاضيه على  كتابه التأسيسي الخلاق "في الشعر الجاهلي". وفي أساس الدعوى كما وثّقتها  المحكمة، ونُشرت في أكثر من كتاب، وتضمنتها الطبعة الجديدة للكتاب، جرى  اتهام طه حسين بالهرطقة والتشكيك بالرسالة المحمدية، وإسقاطات أخرى في هذا  الاتجاه. وبغض النظر عن الدوافع الحقيقية للمشتكين
 التي لم تخرج عن الإطار العام للصراع الدائر آنذاك بين قوى التخلف والظلامية والقوى الناهضة التي أرادت إيقاظ العرب والمسلمين وانتشالهم من حالة الركود الحضاري وما يسببه من انحطاط في سائر ميادين الحياة وفضاءات المعرفة الإنسانية والتطور، فان القرار الذي أصدره القاضي، والحيثيات القانونية التي استند إليها وبرّأ بموجبها الكاتب، تشكل وثيقة تاريخيةً وسابقة قانونية، في غاية الأهمية، سواء من ناحية المنهج أو الرؤى والمنطلقات التي أحاط القاضي نفسه بها، وهو يتصدى لمعالجة قضية شائكة ومعقدة وبالغة الحساسية، استُهدِف بها علم ورمز ثقافي وفكري بقامة طه حسين. لكن قوة القاضي وتماسكه لم تنحصر في متانة حججه القانونية "الشكلية "، ولا في استنباطه جوهر القانون، وليس مواده "الجامدة " وقد فعل ذلك بكفاءة ترقى إلى مستوى رفيعٍ، وإنما في تأسيسه لمنحىً "اجتهادي" ريادي في تفسير أدوات العدالة وتطبيقها وفقاً للضمير ونزوعاً نحو تجسيد بواعثها الإنسانية واكتشاف دخائلها المُضمَرة التواقة لإرساء قواعد وأسس ضامنةٍ للعدالة وهي تواجه مضامير جديدة لا سابقة قضائية لها، تندرج في أصول الفقه القانوني، الجدير بالتدريس كنموذج على ما ينبغي أن يكون عليه القاضي من حسٍ بالعدالة ودرايةٍ بجوهر القانون وقدرة على الاجتهاد واستعدادٍ لتجاوز المألوف والانفتاح على الجديد، حتى وان تعارض مع مسلماته وإيمانه العقائدي والقيم والأعراف والتقاليد السائدة.
لقد خاض القاضي في فضاءٍ من المعرفةِ الثقافية الإشكالية، وهو يعالج موضوع الاتهام الخطير لطه حسين بالهرطقة، في مجتمع شديد المحافظة. وفي جانب آخر من المعالجة القضائية المفعمة بروح المسؤولية، تبرز بقوة تمكنه العميق من العناصر النقدية المتعلقة بموضوع الاتهام الإشكالية وسبر أغوار تفاصيله الدقيقة، بما في ذلك منهج البحث الذي اعتمده طه حسين، والإحاطة بأسلوبه الأدبي، ونزعاته الفكرية والأهداف النهائية التي كان يروم الوصول إليها.
إن استعادة منهجية لأوراق الدعوى، والمقدمة القانونية المستفيضة، المشبعة بروح وقواعد البحث الأدبي، لقرار القاضي، تدلل بوضوح على فهم عميق بان فضاء القضاء يتسع لاستيعاب نزعات البحث الملتبسة، وان تعلقت بما هو مقدسٌ أو ظنّيٌ يخالف المألوف ويشكك به. كما ينظر إلى مواد القانون مهما تطابقت من حيث "الشكل" مع فحوى الاتهام، باعتباره نصاً جامداً، عاجزاً إذا ما أُخذ بمعزل عن عناصر أخرى، عن إدراك ما هو مُضمر في بحث فكريٍ خلاقٍ يتوق لتأكيد الحقيقة عبر إثارة الشك فيها، كما فعل طه حسين. وفي هذا الجانب جاءت المحاججة القانونية للقاضي لتؤكد مطابقة مواد القانون مع فحوى الاتهام "شكلاً" لكنه انتهى إلى الحكم ببراءة الكاتب، معتمداً على دوافع الضمير ونزعات الكاتب، لأنه لم يقصد ببحثه المستند إلى الشك بدافع الشِرك والهرطقة.! لقد استعدنا الآن ذكرى المحاكمة الشهيرة لكتاب طه حسين وفيها جرى إنصاف الكاتب والكتاب والمجتمع، ولكن بعد تلك المحاكمة بعقود، عاد القضاء في مصر نفسها فانتكس في قضية الدعوى ضد المفكر نصر حامد أبو زيد.. فحفظ التاريخ ما حفظ لمحاكمة طه حسين وقضاتها، وحفظ التاريخ عكس هذا لظلم أبي زيد في المحاكمة التي فصلت بينه وبين زوجته.
وليس في نيتي وأنا استرجع إلى الذاكرة الجمعية، في هذه المرحلة التاريخية الحبلى بالمفاجآت، قضية كتاب الشعر الجاهلي ومحنة طه حسين ومعه محنة الثقافة والفكر العربي والإسلامي، في تلك المرحلة البدائية من تاريخنا، إسقاط ذلك الحدث الإلهامي، على واقعنا بصورة تعسفية، لولا التشابه من حيث الإشكالات والتعرضات الراهنة، التي من شأن سيادتها على واقعنا الهش، أن تحول دون نمو يقظةٍ للعدالة وأدواتها تشكل هي وليس غيرها أساساً لأركان الدولة المدنية الديمقراطية التي نتوجه لتكريسها في حياتنا المتكدرة، بفعل التعديات والفساد وغياب الأسس المكينة لدولة القانون والعدالة والحريات وحقوق الإنسان.
فهل لهذه المقاربة التاريخية من مكان في قضيتنا اليوم..؟
فأين نحن من كل ذلك، وما العلاقة بين محاكمة طه حسين ومقاضاته على كتاب الشعر الجاهلي والقضية المرفوعة على المدى، وأين موقع الدعوى الكيدية المرفوعة على مؤسسة المدى من قبل ممثل السلطة الأمنية والعسكرية، وأين موقع الوضع السياسي والاجتماعي في العراق اليوم، الذي يجري اجتيازه بصعوبة وتعقيد من السياق التاريخي الذي جرت فيه محاكمة طه حسين، وأين تلتقي وتتقاطع المحاكمتان؟
إن المقاربة تتجلى في هذا التوجه المريب لبعض رجالات الدولة وقادتها في ملاحقة الصحافة ووسائل الإعلام والسعي لتكبيل حريتها وقضم استقلالها كسلطة رابعة، وجهة رقابية شعبية تواجه تحديات الفساد والنهب المنظم لثروات البلاد، وبروز نزعات الهيمنة والانفراد، كتمهيد لصناعة دكتاتورياتٍ جديدة كامنة.
وهذه المقاربة تكتسب أهميتها وضرورتها من واقع القضاء الحالي الذي يجتاز هو الآخر مرحلة انتقالية بين عهد الاستبداد وشرائعه وقوانينه ورجالاته، وبين عهدٍ جديدٍ لم تتبلور معالمه بعد، يحتاج إلى بيئة ديمقراطية وأدوات وقوانين تتطابق معها وتجسد أهدافها.
أولاً:
 إن الطابع الانتقالي للوضع الراهن، يكاد يتشابه مع الظرف المتحول من التخلف إلى التنوير، زمن محاكمة كتاب "الشعر الجاهلي".
فالعراق اليوم يعيش حالة مخاضٍ عسير بين الماضي الاستبدادي، الذي لم تنقطع عواقبه ومظاهره في سائر المجالات، والنزوع إلى إقامة دولةٍ ونظامٍ ديمقراطيٍٍ وطيد، والتناقض بين الحالتين لا تعكسه القيم والقوانين والتدابير وأساليب الحكم المتوارثة عن النظام الدكتاتوري، بل تجسده عناصر تشبعت بتلك القيم والأعراف والقوانين والسلوك، تحتل مواقع متنفذة في الوضع الجديد وتعيد إنتاج سلوكها الذي تمثلته من زمن مصادرة الحريات والقمع والتعدي على كرامات المواطنين والافتراء عليهم واستدراجهم إلى المعتقلات والسجون والتجني عليهم، دون أي تترددٍ في تلفيق الاتهامات والكبائر عليهم.
ثانياً :
 والمقارنة بين القضيتين، هي ذات العلاقة التناقضية التي تجمع بين حرية التعبير والرأي والاجتهاد وطلب الحقيقة من جانب، وكوابحها وتقييدها بمختلف المسوغات والدوافع المريبة. وفي الحالتين لم يكن هناك قصد للتشويه أو التجني على الحقيقة أو تزوير وقائعها أو استهداف شخصي، بل كان القصد المباشر تسليط الضوء على الحقيقة وكشف ملابساتها، كما حدث بالنسبة للمظلمةٍ التي مسّت مجموعة من الشباب تعرضوا إلى محنة الملاحقة والاعتقال والتعذيب وتلفيق تهمة التزوير بهم، مع أن جريمة التزوير فبركتها الأجهزة الأمنية، وليس غيرها.
ثالثاً :
إن المشتكي يدعي أن جريدة المدى ورئيس تحريرها والمحررين المشكو منهم، استهدفوا التعريض بسمعته والتشهير به ظلماً وتجنياً، وقوّلوه ما لم يقل زوراً وبهتاناً.!
وللتعرف على الحقيقة كما هي، يمكن الاطلاع مباشرة على التصريحات التلفازية التي أدلى بها السيد الناطق الأمني اللواء قاسم عطا، والتي استندت عليها جريدة المدى والمحررون فيها، في محاججته، وهي تكفي لكشف حقيقة الدعوى ودوافعها، واستقواء المشتكي بموقعه الأمني للملاحقة والادعاء، وهو المعني بما تعرض له الشباب من ضيم وتعذيبٍ وتزوير.
فالتصريحات التي أدلى بها السيد قاسم عطا على مدى الأيام التي استمر فيها اعتقال الشباب، تضاربت وتناقضت، وقد تباينت بين نفي لاعتقالهم من ساحة التحرير، وإنما من مقهىً في البتاوين، مع أن كاميرات التلفزيون وشهود العيان رأوا بأعينهم زملاءهم وهم يساقون إلى سيارة إسعاف، وادعائه الآخر بأنهم لم يعتقلوا بسبب مشاركتهم في التظاهرات، بل بتهمة تزوير وثائق رسمية. ثم تصريحات أخرى تندد بهم وتعرض بسمعتهم وتحرض عليهم.
لقد وجه السيد قاسم عطا، في وقت سابق وأمام أنظار عشرات المدعوين في ملتقى السيدة النائبة صفية السهيل تهديداً مبطنا للشباب، حين بادر احدهم بتوجيه استفسارٍ له حول مدى جدية اتهام شابٍ من المتظاهرين بالانتماء إلى البعث وإجباره على توقيع وثيقة إقرارٍ بذلك، مع أن عمره في عام ٢٠٠٣ لم يكن يتجاوز الثالثة عشرة!، وكان رد السيد عطا، وهو يؤشر للسائل وزملائه، انه يعرفهم جيداً وقد شخصهم من خلال مشاركتهم في كل المظاهرات في ساحة التحرير. وقد جاءت أقواله هذه أمام حشدٍ من الحضور، وبينهم وزراء ونواب وصحفيون دون أن يتورع عن صياغة إجابته تلك بصيغة تهديدٍ مبطنٍ سرعان ما تكشفت عندما تم اعتقال الشباب الأربعة، فعلاً في الأسبوع التالي.
وكنت أتمنى ألّا اضطر لاستعادة تهديدات مبطنة أخرى للسيد عطا، وجهها للمحرر السياسي في المدى علي عبد السادة، المستهدف في هذه الشكوى أيضاً، ويؤسفني أن أشير إلى أن التهديد أخذ منحىً لا يليق بمسؤولٍ رفيع في عراقنا الجديد، الذي مازال يرزح تحت أسوأ ما كان ينطوي عليه القديم المستبد، حين هدد السيد قاسم عطا بتحويل القضية إلى طابعٍ عشائري.! كما يؤسفني إيراد واقعة أخرى تعكس أسلوب تفكير السيد عطا وتوجهاته في التعامل مع المواطنين، حين أشار في مكالمة مع الإدارة بأنه "يخشى على حياة الكتاب الذين يواصلون الكتابة عنه". ولم يتورع السيد عطا في حادثة المحرر المذكور من تهديد الإدارة، بأنه يخشى عليه من "الشباب" ويقصد بذلك شباب الأمن المرافق له، إذ من الممكن إلقاء القبض عليه بتهمة الإرهاب.!
فهل بمثل هذا الأسلوب المنطوي على الاستقواء بمراكز المسؤولية يُدار البلد؟
ودون إيراد النصوص القانونية، التي نساق بموجبها إلى هذه المحاكمة، التي تتناقض مع الدستور المقر إذ ينص على بطلان أي قانون يتعارض معه، وينبغي عدم الأخذ به، فان حرية الرأي والتعبير والحقوق الأخرى التي يكفلها الدستور، تمنح الصحافة والإعلام حق ملاحقة كل مظاهر الفساد والتزوير وليِّ الوقائع وتوجيه الاتهامات الباطلة واعتقال المواطنين كيفياً وكيدياً دون مذكرة قضائية مسبقة، ولم تخرج المدى ومحرروها عن هذا الإطار في معالجة كل المظاهر والقضايا التي تطرحها يومياً، وتساهم من خلالها في توعية المواطنين في ما يجري من حولهم، ومنها القضية موضوعة الدعوى.
إن من أصول إظهار الحقيقة أمام الرأي العام بالنسبة للمسؤولين في الدولة دون غيرهم، استخدام حق الرد على الآخر في الوسيلة التي يرى أنها عرّضت به دون وجه حق، وإذا لم يجر الامتثال إلى نشر الرد يمكن آنذاك اللجوء إلى القضاء. وهذا ما يجري في الدول الديمقراطية.
 والغريب والمثير للشبهات إن المسؤولين عندنا، ومنهم المشتكي، لم يستهدفوا من شكاواهم على الصحافة أمام القضاء، رد التهم "الظالمة" عنهم من وجهة نظرهم، بل تحقيق هدفٍ آخر في غاية الخطورة والنتائج، وهو الدفع باتجاه كم أفواه الكتاب والصحفيين وإسكات الصحافة أو إجبارها على الأقفال تحت ضغط الأعباء المالية، وكذلك الكسب غير المشروع على حساب الحرية وقهرها، كما هي في حالة دعوى السيد عطا. إنني إذ اقتصر على إيراد الحقائق عن الادعاءات المرفوعة من قبل السيد عطا على المدى، أؤكد ورود مئات التفنيدات من القراء والمواطنين على أداء السيد عطا وهو يظهر يومياً أمام وسائل الإعلام يورد خلالها وقائع سرعان ما يجري تصحيحها من قبل ناطقين ومسؤولين حكوميين آخرين، ستعمد المدى إلى نشرها تباعاً، عملاً بدواعي وضع الحقائق في نصابها الطبيعي.
والآن ما الذي كتبته أنا في مقالتي، وما الذي ورد في المقالات والتقارير التي كتبها الزملاء المشمولون بالدعوى؟
باختصار شديد، لقد اعتبرنا تصريحات السيد عطا حول إلقاء القبض على الشباب في البتاوين، بتهمة التزوير وليس في ساحة التحرير لكونهم من نشطاء المتظاهرين، مجافاة للحقيقة وتجنياً على الشباب!، فهل هذا القول تجريح للسيد عطا وتجنٍ عليه، أم انه عين الحقيقة والصواب؟
إن السيد عطا منزعج من استخدام احدنا مصطلح "عطا سات" عليه، كما لو أن ذلك تعريض وتشهير، مع انه كناية عن تشبيه له بمفردة إعلامية واسعة الطيف من حيث البث والانتشار. ويبدو أن السيد عطا وهو نجم إعلامي حكومي غير محسود، يجهل أن عشرات البرامج التلفزيونية التي تدخل في باب الدراما السياسية الساخرة تتناول الرؤساء وقادة الأحزاب بصور كاريكاتيرية، وتظهرهم في حالات مزرية تثير ضحك المشاهدين عليهم وأحياناً، تثير التعاطف معهم لما هم فيه من حالة من الرثاثة.. وهذه من مشكلات الناس الذين يختارون أن يكونوا شخصيات عامة وبمواقع مسؤولية عامة.. إن مثل هذه البرامج تنتج وتعرض أسبوعياً في القنوات اللبنانية والعربية الأخرى. وفي برنامج بريطاني جرى تناول الملكة بقدر كبير من الإسفاف والتعريض غير اللائق، فما كان من جلالة الملكة إلا تقديم الشكوى على القناة والمطالبة بتعويض قدره باون استرليني واحد فقط!، منطلقة من الانتباه والحذر في تجنب إثارة الشك في حالة طلب تعويض مادي كبير من استهدافها التعرض لحرية الصحافة واستقلاليتها، فأين نحن من هذا السلوك..؟
أخيراً...
 إننا نتطلع إلى موقف مسؤول من القضاء العراقي، ينحاز فيه إلى الحرية وحق الإعلام في التعبير والنشر بعيداً، عن الانتقام من قبل جهات متنفذة والذي تتكشف الكثير من جوانبه هذه الأيام.
كما يحدونا الأمل في أن يظل القضاء حراً مستقلاً، بمنأىً عن أي انصياعٍ للتدخل أو التأثر أو المواءمة مع رغبات السلطات الأخرى والقوى المتنفذة في الدولة لتطويعه وتجريده من استقلاليته.
إن النظام الديمقراطي، دون قضاءٍ عادلٍ مستقلٍ يصبح مجرد شعارٍ بلا معنى، وهذا يعني الحكم على التجربة العراقية المهددة، بالفشل والانزواء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram