"غبار الروح" كتاب نيكولاس همفري الجديد عن الوعي مغر ٍ-ٍ كـ "رجال مجانين" في مطلع ستينات القرن الماضي - وكتابته بمثل رشاقة وتنويم ذلك الجهاز المكبوح المكدس على جهاز تشغيل الاسطوانات، ومجادلته تبدو بمثل صفاء وإنعاش ابتلاع ذلك الكأس من المارتيني المزدوج، ولو انك قد تجد نفسك فاقد الرشد قليلاً بعد ذلك، وأسلوبه بمثل دفء
وإمتاع تلك النار الضخمة المطقطقة حتى ولو أن البصيص الخافت يخلف بالفعل الأمور مبهمة بعض الشيء في الزوايا، اقصد أن الرجل يتلو شعر الحب الخاص بروبرت بروك، انه مختلف بشدة عن المهووسين السمجين المعتادين في الفلسفة وعلم النفس الأكاديميين.ولكن ماذا عن صباح اليوم التالي؟ هل إن كل تلك التجربة الفائقة التي يصفها ببلاغة كبيرة ستصبح مجرد علم أحياء قديم عادٍ؟ كلا، في الواقع - ليس كتابه ممتعاً بكل ما في الكلمة من معنى وحسب بل انه تعليمي حقاً كذلك- وهمفري -وهو بروفسور فخري في علم النفس في كلية لندن للاقتصاد - قد لا يكون حلّ معضلة الذهن- الجسد وثمة أمر ليقال للهوس الأخرق بالتحليل الفلسفي والبيانات التجريبية، ولكنه يمتلك حقاً بعض الأفكار المثيرة والمبتكرة عن الوعي.ويقول العديد من الفلاسفة أنه من المستحيل تفسير تجربتنا الواعية بالمصطلحات العلمية البايولوجية بأية حال، لكن ذلك ليس صحيحاً تماماً، وقد فسر العلماء سبب امتلاكنا تجارب معينة ولا يمتلكها الآخرون، وهم لم يفسروا وحسب ميزات الوعي الخاصة التي يهتم لأمرها الفلاسفة.فعلى سبيل المثال لـِـمَ يبدو القمر عندما يكون في الأفق اكبر بكثير مما هو فوق سمة الرأس؟ هذا سؤال عن التجربة الواعية – عن الكيفية التي يبدو بها العالم لنا – وليس عن السلوك والمقدرة العقلية، وثمة تفسير تطوري واضح ومقنـِـع.لم يتم تصميم النظام البصري للتعامل مع الأجسام الموجودة على بعد آلاف الأميال، بل تم تصميمه ليقرر بدقة حجم الأجسام القريبة ذات الصلة بشكل تطوري مثل التفاحات، وفيما تتحرك التفاحة اقرب او أبعد فـإنها تـُـسقـِـط صورة اكبر او اصغر على شبكية عيني، إلا أنني لا أرى التفاحة تتمدد او تنكمش، وأرى تفاحة ذات حجم عيني ومستقر، وهذا لأن دماغي تطور ليوحد المعلومات عن حجم الصورة الشبكية مع المعلومات عن المسافة لخلق تجربة بصرية فردية ثابتة.وتكون الصورة الشبكية للقمر دائماً بنفس الحجم تقريباً، غير أن الأفق يبدو أبعد من سمة الرأس ربما لأننا نرى بأن الأجسام الأخرى تكون أمام الأفق في حين أن السمة يكون غير منطـَـبـِـق، ويقرر الدماغ بأن قمر الأفق يجب إذاً في الحقيقة أن يكون اكبر من قمر السمة، وها هو، القمر الصاعد يبدو أكبر بكثير.وهكذا فإننا في الحقيقة لدينا تفسير وفق المذهب الطبيعي وجيه ومثير لهذه الميزة المعينة الخاصة بتجربتنا الواعية وتفسيرات أخرى كثيرة مثله، غير أنه يبدو بأننا لا نستطيع تفسير أهم أمر وهو: لـِـمَ يبدو القمر شبيهاً بأي شيء بأية حال؟ ما الذي يفسر (لا اعرف ماذا) فائق الوصف، سحر الخبرة متعذر الاختزال ذلك؟ لا يبدو ذلك القمر الكبير الجميل انه نتيجة حساب مقدَّر من غير مبالغة، ولا يلوح الأمر لأي شخص وحسب ولكن يلوح لي، لنفسي فائقة الوصف ومتعذرة الاختزال على حد سواء.وفكرة همفري الحاذقة والمبتكرة هي معالجة هذه البديهيات عن الوعي – وهذا المعنى من فوق الوصفية والاستثنائية وتعذر الاختزال ووجهة النظر – بنفس البساطة ميزات خبرة أكثر ليتم تفسيرها بالطريقة التي نفسر بها الحجم الظاهر للقمر، وربما نمر بالوعي بنفس الخصوصية لأنه خاص حقاً، ولكن ربما تكون تلك البديهيات بمثل خداع القمر المتقلص والمتنامي.ونعلم مدى ارتباط تجربتنا البصرية – مثل تجربة ثبات حجم الأجسام – باحتياجنا للبقاء على قيد الحياة، ولكن ما هي الوظيفة التطورية لتجربة فائق الوصف ومتعذر الاختزال ؟ ويشير همفري الى سمة الوعي التي تم تجاهلها بشكل يدعو للاستغراب، وهو يكتب ليقول " خلاصة القول عن كيفية تغيير الوعي لوجهة النظر البشرية – بنفس عمق حقيقة وجودية كما قد يطلبه أي شخص – وهل هذا : لا نرغب بأن نكون زومبي، نحن نحب أن 'نكون موجودين'، نحن نرغب "باأن تكون شبيهاً بشيء هو أن تكون أنا'".ويحل همفري بشكل مبدع العواقب الكثيرة لهذه الحقيقة البسيطة ظاهرياً، وهو يشير – على سبيل المثال – إلى أننا البشر سنعمل جاهدين للحصول على تجربة أحدث او مفعمة بحياة أكثر او اشد انفعالية كمثل جهدنا الذي سنبذله للحصول على وجبة غذائية او رفيق اليف، وتقريباً حالما تمكنا من استخدام الأدوات لصنع المواقد والرماح كذلك استخدمناها لبناء الوعي – نشر تجهيزات الفن في الكهوف المزخرفة بالرسوم والألوان مثل التاميرا - ونحن نخشى الموت بشكل عميق جداً ليس لأنه يعني نهاية جسدنا بل لأنه يعني نهاية وعينا – من الأفضل أن نكون روحاً في السماء على أن نكون زومبياً على الأرض.وثمة قصة تقول إن صامويل بيكيت كان يسير عبر متنزه مع صديق وهو يهتف لـجمال النهار، فقال الصديق "نعم، انه من نوع الأيام التي تجعلك تشعر بأنه من الرائع أن تكون حياً "وي
الوعي: الوهم الكبير
نشر في: 4 يوليو, 2011: 05:38 م